Search
Close this search box.

نهاية مسير الإنسان إلى الجنة أو إلى النار

نهاية مسير الإنسان إلى الجنة أو إلى النار

إن مسير الإنسان هو موضوع شائك يتناول رحلة الإنسان منذ نشأته وحتى نهايته. في هذا السياق يُعتبر مسير الإنسان بمثابة خريطة تحدد مصيره، حيث ينقسم إلى مسير الإنسان الصالح ومسير الإنسان المسيئ.

إن فهم مسير الإنسان يتطلب التأمل في حقيقة الجنة والنار، وكيف يؤثر كل عمل يقوم به الفرد على مسير الإنسان في الآخرة. عندما نتحدث عن مسير الإنسان نجد أن الخيارات التي يتخذها الفرد تشكل مصيره النهائي، مما يجعل من الضروري دراسة تفاصيل هذا المسير. فالجنة تمثل نهاية مسير الإنسان الذي يسعى إلى الخير، بينما النار تمثل نهاية المسير لأولئك الذين اختاروا السوء. لذا، فإن مسير الإنسان ليس مجرد رحلة عابرة، بل هو اختبار يتطلب الوعي والإدراك لتحقيق النهاية المرجوة.

نهاية مسير الإنسان

ينتهي مسير الصالحين بالجنة والمسيئين بالنار.

«يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»[1].

تقول الآية الشريفة للإنسان أن نهاية كدحك ومسيرك الشاق هي لقاء الله تعالى . كما تشير الآيات الشريفة لهذا :

«إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرَّجْعَى»[2].

«وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى»[3].

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»[4].

فحيناً يكون سير الإنسان إلى الرحمة الإلهية فينتهي بالجنة التي هي مظهرها، وحيناً يكون سيره إلى الغضب[5] والقهر الإلهي فينتهي بالنار التي هي مظهرها أيضاً.

طبقات أبواب جهنم

لجهنم طبقات وأبواب متعددة. قال تعالى: «لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ»[6].

وفي سورة الزمر قال تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا»[7].

على هذا يدخل الذين يأكلون حق الناس باطلاً إلى جهنم من باب «حق الناس» الذي يظهر أنه الباب الأكثر ازدحاماً من أبواب جهنم، حيث يدخل منه كل الذين يسخرون من الآخرين ويأكلون أموال الناس باطلا، ويشيعون الفاحشة في الذين آمنوا. وجاء في الروايات أن أمير المؤمنين (ع) كان يضع يداً فوق يد حين يشير إلى طبقات جهنم وقد قال (ع) في دعاء كميل: (يتقلقل بين أطباقها).

مسير الإنسان الی سقر

تفيد الروايات أن جهنم عميقة جداً، ولها سبع طبقات، طبقتها الأولى أعدت للناس العاديين والأخيرة والتي تسمى (سقر) أعمق الطبقات وهي مقر المنافقين.

يُذكر أن جبرائيل (ع) كان عند رسول الله (ص) فسمع صوتاً مهيباً، فسأله الرسول الأكرم (ص) عنه. فأجاب جبرائيل (ع) أنه صوت ارتطام حجر بقعر جهنم كان قد ألقي قبل سبعين سنة.

وفي شرح هذه الرواية قال أستاذنا الكبير قائد الثورة العظيم (رض): أن بعض الناس يطوون طريق جهنم في الدنيا، وحين تأتي ساعة انتقالهم إلى الآخرة بعد عمر سبعين مثلا، يصلون إلى أعماق جهنم. أي أن الحجر الذي ارتطم بقعر جهنم وأطلق هذا الصوت المهيب هو قلب إنسان أصبح كالحجر – لارتكابه المعاصي ولغفلته عن الله تعالى – قاسياً مظلماً فألقي في قعر جهنم.

درجات النار

كما للجنة درجات فالنار كذلك لها درجات، فتتناسب شدة وضعف العذاب في جهنم مع كثرة وقلة ذنوب الإنسان وغفلته عن الله تعالى. فجهنم واحدة إلا أن درجاتها كثيرة، وأبوابها هي الأبواب التي يفتحها الإنسان لنفسه في الدنيا بارتكاب المعاصي؟

مسير الإنسان الی ويل

تبين الروايات أن لجهنم زنزانات اسمها (ويل) وهي حفر جهنم.

«وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالَاً وَعَدَّدَهُ»[8].

في تفسير هذه الآية الشريفة، أشار الإمام جعفر الصادق (ع) إلى وجود حفرة في جهنم اسمها، ويل، وهي مقر كاشفي عيوب الآخرين ولعبيد الدنيا والمال والذين يكنزون الذهب والفضة.

شدة عذاب النار

خلاصة القول أن جهنم مكان شديد الخطورة، والله العظيم لا تكون مظاهر رحمته وغضبه إلا عظيمة كذلك. فمن الطبيعي أن تكون جهنم التي هي إحدى مظاهر القهر الإلهي عظيمة ومهولة. لذلك نعت القرآن عذاب الله تعالى بالشدة.

«… إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»[9].

«وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ»[10].

وقد حذر الله تعالى الناس من آلام عذاب النار الشديد بالوعيد والوعيد وتبيين صفات النار وقساوة العذاب حتى يقي الناس أنفسهم النار.

وتعلمون أن إدراكنا للحقائق الأخروية كالجنة والنار والعذاب والنعيم أمر غير ممكن، إنما يمكننا تصور لمحات منها فقط.

درجات الجنة وطبقاتها

للجنة أيضاً كما للنار درجات وطبقات متفاوتة:

«وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا…»[11].

أبواب الجنة

للجنة أبواب كثيرة يفتحها الإنسان بأعماله الصالحة. فكما أشار النبي محمد المصطفى (ص) إلى أن في الجنة باب للشهداء لا يدخله غيرهم، وباب آخر للصابرين ابتغاء مرضاة الله تعالى على المصائب الدنيوية كعوائل الشهداء والفقراء والمرضى والمعوقين والمجروحين، والصابرين على العبادات والعائذين بالله تعالى حين يواجهون المعاصي فيسيطرون على أنفسهم، أولئك قال عنهم تعالى:

«إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ»[12].

فأجر الصابرين في الآخرة يكون كبيراً لدرجة يتمنون لو أنهم في الدنيا قرضوا بالمقاريض كل يوم وصبروا على هذه المصيبة سبعين عاماً ابتغاء المضاعفة الجزاء.

مصاديق الصبر في مسیر الإنسان

مصاديق الصبر كثيرة … منها حين تقع عين الرجل على امرأة أجنبية فيغض بصره قربة إلى الله تعالى، وعندما يسيطر على نفسه الأمارة بالسوء فلا ينزلق أمام حالة شهوانية ضاغطة، وحينما يحفظ لسانه وسمعه عن قول وسماع الغيبة، ولا ينتابه العجب حينما يتسلّم منصباً رئاسياً، ولا يطلب غير الرزق الحلال، ولطالما أدت أمثال هذه المصاديق إلى طي طريق مائة عام من السلوك والتقرب إلى الله تعالى خلال ليلة واحدة.

الأبواب الأخرى

هناك باب خاص للعابدين، يدخله يوم القيامة الذين كانوا يقضون الليل قياماً وقعوداً، ابتهالاً ومناجاة.

باب الشيعة

(باب الشيعة) من أبواب الجنة المزدحمة والذي يدخله الشيعة بواسطة شفاعة الرسول الأكرم (ص). ويوجد باب خاص بالإمام الحسين (ع) كثير الازدحام. فمقيمي مجالس العزاء للإمام الحسين (ع) والذين لهم مع مظلومية الإمام أوجه شبه (مهما كان ضعيفاً)، هؤلاء سينالون شفاعة الحسين (ع) ويدخلون الجنة من الباب الخاص به (ع).

تذكرة

لهذا عليكم أعزائي يا من تتوسلون بأهل البيت (ع)، وخصوصاً سيد الشهداء (ع)، وتقيمون له مجالس العزاء، عليكم بقراءة زيارة (عاشوراء) و (وارث)، وليكن في قلوبكم شوق لزيارة مرقده المطهر، واتخذوا من حياته الشريفة مثالاً للاقتداء به.

باب التوبة

باب التوبة، من أبواب الجنة المزدحمة أيضاً. فإن ندم الإنسان حقيقة على ما ارتكبه من ذنوب مهما كانت كبيرة وكثيرة وعمل بشروط التوبة، سيغفر الله له كل تلك الذنوب وسيدخل الجنة من باب التوبة:

«يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»[13].

فكل المذنبين يذهبون إلى النار إلا من تاب ورجع إلى ربه[14]، فيبدل الله سيئاته حسنات، وتبيض صحيفة أعماله السوداء، ويؤتى كتابه بيمينه، ويكون مصيره السعادة والجنة، فإن الله تعالى يحب التوابين.

ارجع إرجع، أياً ما تكون إرجع

كافراً كنت، أم مجوسياً، أم وثنياً إرجع

فليس في حضرتنا مكاناً لليأس… حتى لو فسخت توبتك مائة مرة ارجع.

لمحة عن الجنة والنار

الجنة مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى، وجهنم مظهر قهره عز وجل فتكون الجنة نعمة عظيمة لا يمكن وصفها، ولا تحيط بها عقولنا، لأن الرحمة الإلهية مطلقة وغير محدودة فيكون مظهرها مطلقاً أيضاً.

وعذاب جهنم من ناحية كونه مظهراً للقهر الإلهي عظيم لا يمكن إدراكه. وإن لجهنم طبقات ودرجات مختلفة، وكل إنسان يستقر في الطبقة والدرجة التي تتناسب مع حاله وأعماله، فإن شدة العذاب تتناسب مع أعمال وأقوال ونيات الإنسان في الدنيا.

احتراق الجسم والروح

يحدثنا القرآن الكريم أن نار جهنم لا تحرق جلد الإنسان فقط بل تفتت العظام وتحرق الجسم والروح معاً: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا…»[15].

ونقرأ في سورة الهمزة عن سراية نار جهنم إلى العظام: «وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالَاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»[16].

فقد جاء في معنى (الحطمة) الشيء الذي يحطم العظام فيكون معنى عبارة (… لينبذن في الحطمة) أنه يُلقى في النار التي تحطم العظام وتطحنها.

إحاطة النار بأهل جهنم

تكون النيران مطبقة على أهل جهنم فلا مخرج لهم منها ولا منجى. وهو المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الشريفة: «إِنَّهَا عَلَيْهِم مُوْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ»[17].

وبعبارة أخرى، فإن نار جهنم تحيط بأهلها وكأنهم في قدر كله نار وهم يتقلقلون فيها.

يتقلقل بين أطباقها[18].

أغلال وسلاسل النار

الإنسان الذي ابتعد عن الله تعالى، وبالنتيجة عن الجنة، بما ارتكبه من أعمال سيئة وبتعلقه بالدنيا، سيغل يوم القيامة وسيجعلوه في السلاسل، وذلك تنفيذاً للأمر الإلهي: «ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ»[19].

أي أن الغرور والحسد والتكبر والأنانية تتبدل إلى أغلال وسلاسل «إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ»[20].

طعام أهل النار

عبر القرآن الكريم في سورة الواقعة عن طعام أهل النار بـ «غسلين».

«وَلَا طَعَامُ إِلَّا مِنْ غِسْلِينَ»[21].

كذلك نقرأ في سورة الواقعة: «لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا البُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ»[22].

فأهل النار ولشدة عطشهم سيشربون كالإبل التي أصابها الهيام – بضم الهاء – من ماء الحميم الذي يذيب أجسادهم. وبعد الذوبان يحيون من جديد ليعذبوا مرة أخرى وهكذا. عطشهم وجوعهم ناشئان عن عطشهم وجوعهم للشهوة والرئاسة والمال وملاحقة عيوب الآخرين وإهانتهم… الخ.

فالمصرون على الذنوب في الدنيا يبتلون في جهنم بمرض الجوع والعطش ويكون (الحميم) و (الزقوم) هو ما هياؤه لأنفسهم من قبل، إلا أن وطأة جوعهم وعطشهم لا تخف بل تشتد أكثر.

كانت هذه بعض اللمحات البسيطة عن النار، ويمكن التعرف أكثر على أوصاف جهنم وحالات أهلها من خلال التأمل والتدبر العميقين في الآيات القرآنية وخصوصاً ما في سورة الواقعة المباركة والسور التي تليها إلى آخر القرآن الكريم، لعل هذا ما يساعد على تليين قلوبنا القاسية.

فكلما صدأت وقست قلوبنا، إلتجأنا مباشرة إلى القرآن نتلوه بحزن ونفكر بعمق في إحدى سور القرآن الأخيرة. نكرر ذلك حتى تلين قلوبنا وينجلي عنها الصدأ. فهذا هو الطريق الوحيد لتطهير القلوب وإزالة الادران عنها.

لمحة عن الجنة

لا يمكن لنا إدراك حقيقة الجنة أو حتى تصورها، لكن نستطيع الحصول على رشحات قليلة من خلال الآيات القرآنية.

«فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»[23]، (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ»[24].

أنواع الجنة

عدد القرآن في الآية الشريفة ثلاثة أنواع للجنة:

١- الجنة.

٢- جنة عدن.

3- رضوان الله.

ليست الأنواع الثلاثة جنات متفاوتة بل مراتب مختلفة لجنة واحدة، واختلاف المراتب يتناسب مع اختلاف درجات أهل الجنة وشدة وضعف إيمانهم وتوحيدهم.

لذائذ الجنة

لذائذ الجنة نوعان: روحية وجسمية.

إحدى ميزات نعيم الجنة أن الإنسان لا يمل ولا يتعب منها. وقد حدثنا القرآن الكريم عن اللذتين، فذكر:

ا- اللذائذ الجسمية: كالفواكه المختلفة واللحوم والشراب.

ب ـ اللذائذ المعنوية: «لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلَاً سَلَامًا سَلَامًا»[25].

وهذه اللذائذ عبارة عن: عدم وجود إثم في الجنة، إذ لا يخاطب الإنسان صاحبه بما لا فائدة فيه… بل سلام و احترام متبادل. كما تتجلى الوحدة بين الناس حيث لا مجال للإختلاف والتفرقة .

ذلك العالم ليس غير الحياة والبقاء

فليس ذلك المركب من الأضداد

فالفناء سببه التضاد بين الأضداد

فلو لم يكن التضاد لم يكن إلا البقاء

انعدمت الأضداد في الجنة

فلا شمس فيها ولا زمهرير[26].

بما أن الدنيا عالم الأضداد وموطن الكثرة فإن فيها النقص والفساد والاختلاف والتضاد والموت… أما العالم الروحي فلا مكان فيه للفساد والمكر والتضاد والموت، فكله بقاء ونور وتجلي لوحدة الحق تعالى[27].

سلام من الرب

وجود كل ما يشتهيه الإنسان من فواكه في متناول اليد والاتكاء على الأرائك هو من اللذائذ الجسمانية، لكن الأفضل منها هو اللذائذ الروحية، وهو السلام منه تعالى، والذي تنقله ملائكة الرحمة الإلهية من مقام القدس الرباني إلى العباد الطائفين في الجنة. وهو من ألذ اللذائذ، وهذه اللذة غير لذة رؤية حور العين وأكل الفاكهة ومشاهدة رياض الجنة.

«إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلَاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ»[28].

مشاهدة أنوار الجمال الإلهي

من اللذائذ العظيمة الأخرى، مشاهدة تجليات وإشراقات أنوار الجلال والجمال الإلهي، وهي نفسها المقدمات التي وصل إليها الأئمة الطاهرين (ع) في الدنيا، وهو ما يظهر بوضوح في مناجاتهم (ع):

ولا تحرمني النظر إلى وجهك[29].

والحقني بنور عزك الأبهج فأكون لك عارفاً[30].

وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك[31].

كتاب من الله

تخبر الروايات عن صدور كتاب من الحق تعالى لعبده المؤمن في الجنة تبدأ بالعبارة التالية:

(من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت)[32].

إن صدور كتاب من جانب العزّ الربوبي إلى العبد يتضمن سلامه تعالى ويبدأ بالجملة المذكورة دليل على المقام العالي واللذة التي لا تتصور فوقها لذة.

شأن أهل الجنة

تخبرنا الآية الشريفة: «إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ» بمسألة مهمة أخرى وهي أن كل شخص من أصحاب الجنة متنعم بما يتناسب شأنه ومقامه في الدنيا، فمن كانت همته وأعماله الصالحة ومقاماته المعنوية مع أسمى – كلما كان ما يطلبه ويدعوه أسمى وبالتالي – فسيكون مقامه وشأنه في الجنة أعظم.

حال أهل الجنة

إن أهل الجنة على أربع فئات:

الفئة الأولى: الساكنون في مقام الجنة الأدنى

هناك عباد لا يتعدى شأنهم التمتع والتلذذ بنعم الجنة المادية، كالأنهار والأشجار والقصور وحور العين… أحياناً يأتيهم سلام وخطاب من الله تعالى، وهذا المقام شأن عامة الناس الذين دخلوا الجنة، وهو شأن عظيم جداً يحتاج إلى تصور لذائذه ذوق ومعرفة… ومع هذا فهو مقام الجنة الأدنى.

الفئة الثانية: المنغمرون في عالم الوحدة

الفئة الثانية من أهل الجنة لها مقام أعلى، فأولئك شأنهم الانغمار في عالم الوحدة، وعملهم التسبيح والتهليل والتحميد للذات الربوبية.

«وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورُ»[33].

تقول الروايات إنهم غارقون في عالم الوحدة لدرجة أنهم لا يلتفتون إلى حور العين والقصور والنعم المادية.

الفئة الثالثة: المستأنسون بالرسول والأئمة (ع)

الفئة الثالثة من أهل الجنة هم المستأنسون برسول الله (ص) والأئمة الطاهرين (ع)، فلذتهم في مجالسة رسول الله (ص) وأهل بيته (ع)، وربما هذه الجنة هي جنة عدن.

«وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئْكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا»[34].

حقاً إن المؤانسة مع رسول الله (ص) والأئمة الأطهار (ع) نعمة عظمى.

الفئة الرابعة: المجاورون لله ورضوانه

أما الفئة الأخرى من أهل الجنة، ومقامها أعلى من الفئة الثالثة، فأولئك في جوار الله ورضوانه، فهم عند الله يكلمهم، وينالون سعة وجودية بنظر الله تعالى إليهم، وهم مسرورون وفرحون لعناية ولطف الحق تعالى بهم.

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»[35].

عبارة (إلى ربها) جار ومجرور يفيد تقدمها الحصر، فيعني أن هناك فئة لا عمل لها غير مشاهدة جمال الحق جل وعلا، فهم دائمي النظر إلى وجه الله تعالى ولذتهم في الجنة مشاهدة وجهه عز وجل.

فعندما نقول بأن الشهيد ينظر إلى وجه الله، فهم مصاديق للآية الشريفة: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي»[36].

نقل في رواية المعراج أن رسول الله (ص) سأل ربه جل وعلا عن فئة من الناس، فجاءه الخطاب: إنهم (المسجونون) ثم تحدث عنهم بقوله تعالى: قد سجنوا ألسنتهم من فضول الكلام وبطونهم من فضول الطعام.

إنهم تاركوا الشهوات في الدنيا، الذين قل كلامهم فتركوا منه ما لا فائدة دنيوية أو أخروية ترجى منه، ولم يألفوا مجالس البطالين، ولم يكثروا من النوم والأكل بل انشغلوا بالعبادة وأفنوا أعمارهم في طلب العلم والعمل، بأحكام الشارع المقدس، ولم يرتكبوا المكروهات، واقتصروا على ما يسد حاجتهم فلا إفراط ولا تفريط.

تذكرة

أعزائي عليكم بتلاوة سور القرآن الأخيرة التي تصف الجنة والنار، فهذه السور والآيات تحدث عند الإنسان حالة من الخوف والرجاء، وهي حالة لا بد للإنسان أن يحافظ عليها في سيره وسلوكه الإلهي، فيسيء الظن بنفسه ويستشعر الخوف من الذنوب التي ارتكبها أو التي قد يرتكبها في المستقبل، ومن ناحية أخرى أن يضع كل أمله في رحمة الله تعالى الواسعة. فعليه أن يعلم أنه مهما كبرت وكثرت ذنوبه فإن رحمة الله تعالى أكبر وأعظم.

حوار أهل الجنة وأهل النار

نعلم من القرآن أن أهل الجنة وأهل النار يرى كل منهما الآخر ويتحاور معه. والفئتان تحاوران الله تعالى أيضاً، فأهل الجنة يتلذذون بحديثهم مع الحق تعالى، أما أهل النار فيتعرضون للقهر الإلهي عندما يتكلمون مع الله، فحين يطلبون الخروج من النار يأتيهم الخطاب:

«… اخْسَنُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ»[37].

والملائكة تحدث أهل الجنة بمحبة واحترام، بينما تحدث أهل النار بغضب واحتقار، وهو ما يؤذيهم كثيراً، فأهل النار يتألمون بشدة عندما يتعرضون لاستهزاء الله والملائكة وأهل الجنة. وإنه لعذاب كبير أن يتعرض الإنسان للاستهزاء يوم القيامة. قال تعالى في سورة الأعراف:

«وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَ نَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ»[38].

«وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ»[39].

فيؤجج هذا الجواب نار الحسرة في قلوبهم.

وينقل القرآن الكريم محاورة أخرى: «فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ»[40].

ثم يقول القرآن: إن هؤلاء سوف لن تنفعهم شفاعة الشافعين في ذلك اليوم[41].

الاستنتاج

أن مسير الإنسان الصالح ينتهي بالجنة ومسير الإنسان المسيئ ينتهي بالنار، وأن لجهنم طبقات وأبواب متعددة، ودرجات، وللجنة أيضاً درجات وأبواب يفتحها الإنسان بأعماله الصالحة، وأن الجنة مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى، وجهنم مظهر قهره عز وجل، وأن نيران جهنم مطبقة على أهلها فلا مخرج لهم منها ولا منجى، وأن للجنة ثلاثة أنواع، وأن لذائذ الجنة نوعان: روحية وجسمية، وأن أهل الجنة وأهل النار يرى كل منهما الآخر ويتحاور معه.

الهوامش

[1] الانشقاق، ٦.

[2] العلق، ٨.

[3] النجم، ٤٢.

[4] البقرة، ١٥٦.

[5] بالطبع إن جهنم هي إحدى مظاهر القهر والغضب الإلهي.

[6] الحجر، ٤٤.

[7] الزمر، ۷۱.

[8] الهمزة، ۱ – ۲.

[9] إبراهيم، ٧.

[10] الحجر، ٥٠.

[11] الزمر، ۷۳.

[12] الزمر، ١٠.

[13] الزمر، ٥٣.

[14] الفرقان، ۷۰، «إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ».

[15] النساء، ٥٦.

[16] الهمزة، ۱ – ۷.

[17] الهمزة، ۸ – ۹.

[18] مقطع من دعاء كميل،

[19] الحاقة، ۳۰ – ۳۲.

[20] يس، ٨.

[21] الحاقة، ٣٦، يقصد وبالغسلين، الدم والقيح.

[22] الواقعة، ٥٢ – ٥٦.

[23] السجدة، ١٧.

[24] التوبة، ۷۲.

[25] الواقعة، ٢٥ – ٢٦.

[26] للشاعر مولوي.

[27] لان طبع وجوهر الروح الإنسانية من عالم الرب فهي تريد بفطرتها الوحدة والرجوع إلى عالم الروح والجنة، لكن الدنيا التي هي عالم الأضداد والفساد والاختلاف، خدعت ومنعت الإنسان عن التحليق بروحه إلى موطنها الأصلي.

[28] يس، ٥٥ – ٥٨.

[29] المناجات الشعبانية.

[30] المناجات الشعبانية.

[31] المناجات الشعبانية.

[32] المجلسي، بحار الأنوار.

[33] فاطر، ٣٤.

[34] النساء، ٦٩.

[35] القيامة، ۲۲ – ۲۳.

[36] الفجر، ۲۷ – ۳۰.

[37] المؤمنون، ۱۰۷ – ۱۰۸.

«رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ».

[38] الأعراف، ٤٤.

[39] الأعراف، ٥٠.

[40] المدثر، ٤٠ – ٤٥.

[41] «فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ» المدثر، ٤٨.

مصادر البحث

المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل