الإخلاص
يعتبر الإخلاص أحد أرفع مقامات التكامل والسير والسلوك، وأساسَ سعادة الإنسان وتحرره. وقد أوصى أمير المؤمنين صلوات الله عليه في إحدى خطبه القيّمة بذلك حيث يقول عليه السلام:
“وأخلص لله عملك وعلمك، وحبك وبغضك، وأخذك وتركك، وكلامك وصمتك” (1).
وفي قول آخر يعرّف الإخلاص بأنه من خصال الأناس العظام من أصحاب الفضائل فيقول أيضاً:
“الإخلاص شيمة أفاضل الناس” (2).
هذَّب الإمام الراحل قده نفسه عن كل الشوائب غير الإلهية من قبيل الرياء والعجب والكبر وسائر الأمور التي تعد موانع أمام الوصول إلى الحقيقة، وسبباً لفساد العمل. وجُبِل كل وجوده وامتزجت جميع أبعاد حياته بالاخلاص. فكل حركاته، الصغيرة والكبيرة، كانت تنجز ابسم الله ولذكره سبحانه، ولم يكن يفكر في شيء سوى في رضى المحبوب.
* مظاهر من إخلاص الامام قدس سره:
بعض مظاهر إخلاص هذا الإمام الراحل هي:
1 – الاخلاص في الهدف:
إن معيار تقويم جميع الأعمال والسلوكيات الانسانية يكمن في الباعث عليها والهدف من ورائها، وبكلام آخر إن حسن الأعمال وقبحها مربوط بالمقصد. يقول علي عليه السلام:
“الأعمال ثمار النيّات، النيّة أساس العمل” (3).
فالإخلاص في الباعث على العمل والهدف من ورائه هو بمثابة الروح في جسم الأعمال، حيث يبعث النشاط في الأعمال ويمنحها وجهتها.
وعليه، فقد كان الباعث الإلهي هو الإكسير الذي حفظ شجرة وجود الإمام المثمرة والمباركة. يقول القائد المعظّم للثورة، آية الله العظمى الخامنئي بشأن شخصية الإمام قده:
“إن أعظم مديح لقائدنا العزيز كان في أن نناديه باسم عبد الله” (4).
كان إخلاص الإمام قد بلغ المرتبة الأرفع، حيث كان يقول بشأن رغبة طلابه وجهودهم التي يبذلونها لأجل إظهار مرجعيته:
“أنا لست راضياً أن يتجاوز حبُّ الأشخاص المتعلقين بي حدود القلب، ولست راضياً أيضاً أن يُظهروا حبهم ذاك. فكل من لديه مودة قلبية لي، فليدع مودته تلك تبقى في داخله، وليس لأي شخص أن يتحرك حتى شبراً واحداً لأجل رئاسة لي” (5).
ويقول حجة الإسلام مرتضى الطهراني:
“إن أياً من الأعمال التي كان يقوم بها الإمام، لم يكن لها باعث سوى طلب رضى الله وطاعته، وهذا النوع من الباعث الذي يُعدُّ أرفع صفات الانسان المؤمن، هو الذي قد أوجد في مسيرة حياته الطبيعية ذلك القدر من الصفاء والنورانية، وصيّر فكره ورؤيته وتشخيصه للأحداث الهياً” (6).
2 – الإخلاص في الحديث:
يُعدُّ الإمام قده من مصاديق هذه الآية القرآنية الكريمة التي تقول:
“.. وجعلنا لهم لسان صدق علياً” (7).
فقد كان حديثه مليئاً بالمعارف، والاخلاص للحق، وذا تأثير في نفوس طلاب الحقيقة. يقول أحد طلاب الإمام قدس سره:
“كان لكلماته نفوذٌ كبير في القلب، حيث لا أظن أن أحداً من مستمعي مواعظه أمكنه أن ينساها للحظة من اللحظات، كما كانت تستحكم في نفوس بعض الأفراد وتستقر فيها، كأنها دائماً نُصبَ أعينهم.. وكان تأثيره في أرواح المستمعين كبيراً جداً إلى الحد الذي أنّ وجوه الأخوة الطلبة كانت تتغير إثر الانصات إلى مواعظه” (8).
3 – الإخلاص في العمل:
الاخلاص في الواقع هو تصفية البيت الذي يجب أن تصدر منه جميع أعمال الإنسان حتى تستقر في رحاب قبول الحق تعالى ورضاه، وقد جاء في الحديث القدسي:
” من أشرك معي غيري في عمله لم أقبله إلاَّ ما كان لي خالصاً” (9).
ولقد زيَّن الإمام وجوده المبارك بذكر الله تعالى، وكان الله عنده هو كل شيء، وقلبه مليئاً بحبه سبحانه. وفي ما يلي نماذج من إخلاصه في مقام العمل:
أ – في موضوع تحصيل العلم والمعرفة، أوضح الإمام، ومنذ البداية أنني كنت أدرس لأجل أداء التكليف الإلهي، وأن هدفي ليس نيل المقام أو منصب المرجعية.
فالعمل بالتكليف واجبُه حيث كان يمنع المقربين بشدة من طرحه للمرجعية، ولمرات عدة قال قده:
“أقسمُ بالله إنني لم أحرك ساكناً لأجل الوصول إلى المرجعية والقيادة، ولكن إن حطت برحالها عندي، فإنني. وعلى أساس ضرورة تحمل المسؤولية. لن أتهاون فيها” (10).
ويقول أحد طلابه:
“للامام حاشية على كتاب “وسيلة النجاة” للسيد أبو الحسن الاصفهاني وكذلك على كتاب “العروة الوثقى”. وعلى الرغم من أننا كنا نتردد على منزله، لم نكن نعلم أنَّ له حاشية على هذين الكتابين، حيث أن هذا الأمر داخل في خصوصيات أي شخص يطمح للمرجعية. فمن يريد المرجعية، فلا أقله يُفهم أصدقاء المقربين أنه قد كتبَ مثل تلك التعليقات على الكتب الفقهية” (11).
ب – كذلك، كان يسعى في الأمور الاجتماعية أن يقوم بالعمل لله تعالى، كما كان ينفرُ من الرياء والعجب وطلب الشهرة. يقول آية الله صانعي:
“طلب صاحب أحد المعامل في طهران مبلغاً من المال من الإمام، وذلك لمسجد كان قد أسسه. قَبلَ الإمام هذا الأمر مكرهاً، ولكن بعد أن اشترط تعيين أحد العلماء من قِبلِه لتولي خدمة المسجد. وعندما بعثه، قال الإمام له: “تكليفكم بالاضافة إلى التبليغ والارشاد هو أن لا تأتوا على ذكر موضوعين: الأول، أن لا يؤتى على ذكر اسمي في هذا المسجد. والثاني، أن يكون لقاؤكم مع باني المسجد بصورة لا تجعله يفكّر أننا متعلقون بثروته وماله” (12).
ويقول أحد أصحابه:
“تشرفنا بزيارة الإمام، فتفضل الشيخ مهدي الشاه آبادي بالقول للامام إن فلاناً قد حضر من مدينة همدان وهو من أهل المجاهدة، ولديه تعلق بكم، وإنه الآن في منزل أخيه في قم، فاذهبوا لرؤية هذا الشخص. قال الإمام: حالتي لا تساعدني! غير أن الشاه آبادي أصرَّ على طلبه، فقال الإمام قده: ما ذكرته من أن حالتي لا تساعدني راجع لحرارة جسمي المرتفعة، وطبعاً ليس بالقدر الذي لا يمكنني معه أن أذهب إلى منزله.. لكن لأنني لا أستطيع أن أؤدي ذلك بقصد القربة، لا سيما بعدما ذكرتم ما تجشمه ذلك الشخص، ومن أنه مريد لي، فلهذا لا أريدُ أن أذهب إليه” (13).
ج – كان هدف الإمام في الجهاد والثورة الاسلامية، هو تأسيس حكومة الله وتنفيذ برامج الإسلام والقرآن فقط، وقد ثبت على هذا الطريق حتى النهاية. لقد وضع الإمام في الخطوة الأولى للجهاد، وفي أول بيان أصدره الآن، الآية المشار إليها أدناه، كلافتة لطريقه ومنهجه: “قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله..” (14).
وفي اوئل المواجهات حيث كانت تصدر البيانات المتعددة، الواحد تلو الآخر، أرسل أحد علماء طهران رسالة إلى الإمام في قم، يقول فيها بما أن جنابكم العالي في عداد المراجع، فليس لائقاً بشأنكم أن تصدروا بيانات كثيرة، فقال الإمام: “أوصلوا سلامي له وقولوا بأنني لا أريد أن أصير مرجعاً، بل أريد أن أعمل بتكليفي” (15).
وحينما كتب شخص كتاباً ضد الإسلام ومعتدقات المسلمين تحت عنوان: “أسرار الألف سنة”، لم يرد على هذا الكتاب أي أحد، فعطل الإمام درسه، وانشغل بإعداد وتأليف رد عليه. وعلى أثر العناء الكثير الذي بذله على هذا الجواب، تضررت عينه الشريفة:
ونتيجة هذا العناء هي كتابه “كشف الأسرار”، الذي رفض قده أن يشير في طبعاته الأولى إلى اسم المؤلف، وكان يقول: “لقد كتبت هذا الكتاب لأجل رضا الله فقط..” (16).
4 – الاخلاص في العبادة والتدين:
نال باني الجمهورية الاسلامية قصب السبق في هذا الميدان، فقد عرفَ الله وسلَّم له كل وجوده، ولم يشرك في عبوديته له تعالى شيئاً أبداً، ووضع خدمات القيّمة على طَبق الاخلاص وقدمها إلى الحبيب في محضره.
كان أمثولة من كل جهة في الأبعاد العبادية المختلفة، والشاهد على ذلك بكاؤه بكاء العارف لله وخضوعه وإحياؤه لليالي بين يديه جل جلاله، وصحبته للقرآن وأنسه به، والدعاء والنوال. في المقابل لم يُرََ أو يُسمَع _ ولو لمرة واحدة _ أن الإمام مدح نفسه، أو أشار صراحة أو كناية، إلى بعض ما جرى عليه من صعوبات ومرارات في السير والسلوك. وحتى خلال بعض الأوقات، عندما كان يريد أفراد من الذين التقوا بالامام أن يقولوا بأننا من أهل المعرفة وأصحاب القلوب، كان الإمام ينهي الأمر بطريقة لطيفة جداً، بكلمة واحدة: “موفقون” (17).
كان الإمام حارساً حقيقياً للاسلام، واشترى بالروح ثمناً، جميع المخاطر والصعوبات، كي لا يصيب دين الإسلام أي ضرر، يقول آية الله العظمى الآراكي قده شأن هذا الأمر:
“إن هذا الرجل لهو الدين، الحاضرُ دوماً على أهبة الاستعداد، والمتهيئ حتى للقتل أيضاً.. وإن كتاب “كشف الأسرار” الذي كان قد كتبه بوحي من عمق تدينه.. يصح أن نقسم بالله إنه ليس لهذا الرجل الصالح أي غرض فيه سوى ترويج الدين” (18).
إن سر انتصار الإمام وتوفيقه هو العمل في سبيل الله، ومن منطلق العبودية، له. يقول قائد الثورة المعظم، آية الله العظمى الخامنئي دام ظله:
“.. كانت النقطة المحورية في عمله أيضاً هي الفناء في الارادة الالهية والتكليف الشرعي، ولم يكن مظروحاً أي شيء آخر سوى هذا.. كانت العبودية لله، والتسليم له لأجل رضاه، هما السر الأساسي لنجاحات شعبنا، والإمام كان المظهر الأتم لهذه الروحية.. فنجاحه يعود بالدرجة الأولى إلى اخلاصه، فهو في الواقع كان مخلصاً لله، ينجز العمل صرفاً لله تعالى وليس لأحدٍ غيره” (19).
“.. في وقت العبادة، كان يقف في المحراب كعابدٍ مخلص، ويناجي ربّه على مثل تلك الحالة من الصدق حتى يقول قائل لقد ترك الدنيا وانصرف إلى العبادة فقط” (20).
1 شرح غرر الحكم، ج2، ص209، طبعة الجامعة.
2 المصدر نفسه، ج1، ص157.
3 شرح غرر الحكم، ج1، ص 79و 260.
4 مجلة “الحوزة” العدد 49، ص160.
5 المذكرات الخاصة، ج3، ص 18.
6 المصدر نفسه، ج5، ص32.
7 مجلة “الحوزة” العدد 49، ص160.
8 المذكرات الخاصة، ج5، ص30.
9 بحار الأنوار، ج7، ص243.
10 المذكرات الخاصة، ج2، ص101.
11 المصدر نفسه، ج3، ص37.
12 المصدر نفسه، ج2، ص155.
13 المذكرات الخاصة، ج5، ص 36.
14 سورة سبأ، الآية 46.
15 المذكرات الخاصة، ج5، ص43.
16 مجلة “الحوزة” العدد 12، ص 43-44.
17 المذكرات الخاصة، ج2، ص94.
18 مجلة “الحوزة” العدد 12، ص 43 – 44.
19 “حديث الشمس”، ص111، و 118 و 120.
20 المذكرات الخاصة، ج1، ص121.