إنَّ التآلُف بين الناس وإحلال روح الأخوة بينهم من النِّعم الجليلة من وجهة نظر الإسلام.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ تَأَلَّفَ النّاسَ أَحَبُّوهُ”.
تُبرِز هذه المعادلة أهمية الإلفة والتواصل الإيجابي بين الناس في بناء مجتمع مترابط متماسِكٍ، والإلفة مفهوم اجتماعي عميق له أثر في توحيد القلوب، وتعزيز المحبة، وتمتين العلاقات، وترسيخ السلم والأمان الاجتماعِيَّين.
الاُلفة مصدر، وتعني: ضمّ شيء إلى شيء آخر، وكُلُّ شيءٍ ضَمَمتَ بَعضَهُ إلى بَعضٍ فَقَد ألَّفتَهُ تَأليفاً، وَالأَلفُ العَدَدُ المَخصوصُ، وسُمِّيَ بِذلِكَ لِكَونِ الأَعدادِ فيهِ مُؤتَلَفَةَ.
وتأتي الاُلفة والتّأليف تارةً بالمعنى المادّي، كاصطفاف أجزاء المجموعة جَنباً إلى جنب، وتارةً بالمعنى المعنويّ، كاجتماع القلوب، وقد وردت هذه المفردة في القرآن الكريم تارة بمعنى التأليف المادي كقوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴿43/ النور﴾ وتارةً اُخرى بمعنى التأليف المَعنويّ بين القلوب كقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴿103/ آل عمران﴾.
والتَّألُّف مُشتَقٌّ من “الإلفة”، ويعني استمالة قلوب الآخرين، وكسب وُدِّهم، وتقوية العلاقات بينهم، من خلال الصدق معهم، والوفاء وحب الخير لهم، والإخلاص في خدمتهم، والتعامل معهم بلين ورحمة، والابتعاد عن الشدة والجفاء، واحترامهم، ورعاية حُرُماتهم، وصيانة شرفهم وكرامتهم، وتقدير جهودهم، والسُّرور لما يَسرُّهم، ومساندتهم في أحزانهم وأتراحهم، وسوى ذلك من مفردات التعامل الأخلاقي معهم.
ومِمّا لا شَكَّ فيه أن تأليف القلوب من أهمّ ما اعتنت به الأديان السماوية، وهو من الأولويّات التربويّة والسياسيّة في الإسلام، وهذا ما يتجلَّى في القاعدة التي أقام مجتمعه الإسلامي عليها، قاعدة الأخوة الإيمانية، حيث قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ …﴿10/ الحُجُرات﴾. والقاعدة التي يدعو إلى قيام المجتمع الإنساني عليها، قاعدة الأخوَّة الإنسانية، حيث قال الإمام عَلِيٌّ (ع) في كتابه إلى مالك الأشتَر النَّخعي: “وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَـهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْـخَلْقِ”.
إنَّ التآلُف بين الناس وإحلال روح الأخوة بينهم من النِّعم الجليلة من وجهة نظر الإسلام، حيث يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): بشأن أهميّة هذه النِّعمة: “فَإِنَّ اللّهَ سُبحانَهُ قَدِ امتَنَّ عَلى جَماعَةِ هذِهِ الاُمَّةِ فيما عَقَدَ بَينَهُم مِن حَبلِ هذِهِ الاُلفَةِ الَّتي يَنتَقِلونَ في ظِلِّها، ويَأوونَ إلى كَنَفِها، بِنِعمَةٍ لا يَعرِفُ أحَدٌ مِنَ المَخلوقينَ لَها قيمَةً، لِأَنَّها أرجَحُ مِن كُلِّ ثَمَنٍ، وأجَلُّ مِن كُلِّ خَطَرٍ”.
الإلفة بين الناس تعزِّز الروابط الاجتماعية، وتقوي تماسك المجتمع ليكون كالبُنيان المَرصوص، وتُقَلِّل من النزاعات والصِّراعات بين الناس، وتجلب إليهم الأمان والطمأنينة، إذ تخلق بيئة تتسم بالمحبة والمودة والرحمة.
يبقى أن نذكر توصيات تساعدنا قارئي الكريم على تَأَلُّف الناس واجتذاب قلوبهم وتأليف نفوسهم، ويكون ذلك بِحُسنِ الخُلقِ معهم، ومعاملتهم بأخلاق رفيعة، واللطف معهم، والتواضع لهم، والصبر على ما يبدر منهم من أخطاء غير مقصودة، وستر عوراتهم، وحفظهم في غيبتهم، وتقديم العون لهم، والابتسامة في وجوههم، والإصغاء إليهم، والتعامل مع خلافهم بروح إيجابية، ومحاورتهم بدل مجادلتهم، وسوى ذلك من الأمور.
حاصل القول: إن الإلفة بين الناس ليست فقط قيمة أخلاقية، بل ضرورة اجتماعية تساهم في بناء مجتمعات متماسكة ومزدهرة. وبتطبيق تعاليم الإسلام التي تحث على التألُّف وحسن التعامل، يمكن أن يتحقق السلام والمحبة بين الناس، مِمّا يجلب الخير للجميع.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي