القدس: من اليبوسيّين إلى صلاة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (1)

القدس: من اليبوسيّين إلى صلاة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (1)

الشيخ موسى منصور

جميلة كيوسف، كأنّها وشاح سماويّ قديم صنعته الملائكة ذات أزل. مدلّلة كموسى، غسلت أقدامها أيدي الأنبياء بماء من جوار العرش. حزينة كيعقوب، على وجنتيها دمع مزمن منذ سالت على أرضها دماء الصدّيقين. مسبيّة كزينب، لم تُرعَ لها حرمة، وامتدّت إليها أيدي الغدر منذ نيف وسبعين قيداً. جمعت بردائها أطراف المجد مذ صافحها المرسلون، وتوجّت بأيديهم بتاج الشرف الرفيع، وحازت وسام القداسة برتبة عاصمة السماء.

تقع على بقعة مباركة، تحدّها من جهاتها الأربع طهارة الفجر وصلاة الخاشعين، لا تعرف من ألوان العتمة إلّا قيود السجّان الغادر، إنّها القدس عاصمة فلسطين.

* لمحة تاريخيّة
القدس من أقدم المدن التاريخيّة والحضاريّة، تقع في بلاد الشام وتحديداً في فلسطين، وهي أكبر مدنها وأكثرها أهميّة من الناحيتين الدينيّة والاقتصاديّة. يعدّ اليبوسيّون(1) أوّل من بنى المدينة وسكنها في الألف الخامس قبل الميلاد. ونحو عام 1000 قبل الميلاد فتحها النبيّ داوود عليه السلام وجعل منها عاصمة مملكة إسرائيل، ثمّ أقدم ابنه سليمان عليه السلام على بناء أوّل هيكل فيها.

وفي عام 597 ق. م “قدم (نبوخذ نصّر) إلى بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وخرّب بلادهم”(2)، و”هدم الهيكل وأحرق التوراة”(3)، “وسبى من سبى من بني إسرائيل”(4). أمّا جنوده فقد “نهبوا خزائن الملك والهيكل وجمعوا من أغنيائهم وأقويائهم وصنّاعهم ما يقرب من عشرة آلاف، وساروا بهم إلى بابل، وما أبقوا في المحلّ إلّا الضعفاء والصعاليك”(5). وهو ما عُرف بالسبي البابليّ الأوّل، أمّا السبي الثاني فكان في عام 586 ق. م. وقيل: “إنّ ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيّين (539 – 560 ق. م)، وهو الذي أسّس الإمبراطوريّة الإيرانيّة،… أذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم (القدس)، وساعد في بناء الهيكل”(6).

وفي عام 165 ق. م، ثار المكابيّون من اليهود، وأقاموا مملكة يهوديّة، وكانت عاصمتها أورشليم. وبعد أخذ القائد الرومانيّ بومباي أورشليم عام 63 ق. م، أصبحت المدينة تحت حكم الرومان، ولم يقم لليهود حكم ولا سلطان من 63 قبل الميلاد إلى 1948م(7).

وبعد سبعين سنة من رفع السيّد المسيح عليه السلام، دخل تيطس الرومانيّ بيت المقدس وخرّبها، “حتّى لم يُبقِ حجراً على حجر، وهدم هيكل سليمان، وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك، وقيل إنّ تيطس خرّب بيت المقدس بتحريض المسيحيّين انتقاماً من اليهود”(8).

في عام 10 هـ (621 م تقريباً)، شهدت القدس زيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، عندما أُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمّ منه عُرج به إلى السماء.

وفي عام 16 هـ (636 م)، فتح المسلمون القدس في زمن عمر بن الخطاب، ولم تزل على ذلك بيد المسلمين(9).

وقد سقطت القدس في أيدي الصليبيّين في عام 1099م، إلى أن استردّها نجم الدين أيّوب عام 1244م. ثم تعرّضت للغزو المغوليّ عام 1243م، إلى أن استعادها المماليك في معركة عين جالوت عام 1259م.

وفي عام 1615م، أصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطوريّة العثمانيّة بعد معركة مرج دابق، إلى أن سقطت في يد الجيش البريطانيّ عام 1917م حتّى 1948م عندما أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب، فاستغلّت العصابات الصهيونيّة حالة الفراغ السياسيّ والعسكريّ، وأعلنت قيام الدولة الإسرائيليّة وعاصمتها القدس الغربيّة، في حين خضعت القدس الشرقيّة للسيادة الأردنيّة حتّى هزيمة حزيران 1967م التي أسفرت عن ضمّ القدس بأكملها إلى سلطة الاحتلال الصهيونيّ.

* أسماؤها
نظراً لقدمها وأهميّتها الدينيّة والتاريخيّة، فقد كان للقدس الكثير من الأسماء، أهمّها:

1. بيت المقدس: وهي من أشهر الأسماء بعد القدس(10)، وأكثرها استعمالاً في التراث الإسلاميّ، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله تبارك وتعالى اختار من كلّ شيء أربعة… واختار من البلدان أربعة، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ (التين: 1-3)، فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس…”(11).

2. إيلياء: اسم مدينة بيت المقدس، قيل: معناه بيت الله(12)، وقال الفيروزآبادي: “إيلياء… مدينة القدس”(13). وفي النبويّ: “إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء”(14). ولهذا، يطلقون على مدينة القدس: ثالث الحرمين.

3. بيت إيل: نقرأ في دعاء السمات: “وَلِيَعْقُوبَ نَبِيِّكَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي بَيْتِ إِيْلٍ”(15). وأمّا عن بيت إيل فقال العماد الأصبهانيّ: “هو بيت المقدس، ويجوز أن يكون معناه بيت الله، لأنّ إيل بالعبرانيّة الله”(16).

4. أولى القبلتين: أوّل ما فُرضت الصلاة، كانت القبلة التي يتوجّه إليها المسلمون هي بيت المقدس. قال العلامة المجلسي: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا﴾ (البقرة: 143)، وهي بيت المقدس”(17)، وبقي الأمر مدّة أربع عشرة سنة(18)، ثمّ نزل قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة: 144).

5. مسرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ (الإسراء: 1).

6. الأرض المقدّسة: قال العلامة المجلسي عن قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ (المائدة: 21): “أرض بيت المقدس، لكونها قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين”(19).

7. أورشليم: وهي الأكثر استخداماً في التراثَين اليهوديّ والمسيحيّ، “وربّما أنّ معنى هذا الاسم هو أساس السلام أو أساس الإله شاليم”(20)، ففي العهد القديم: “ثمّ رجع داوود وجميع الشعب إلى أورشليم”(21). وفي العهد الجديد: “ولمّا دخل أورشليم ارتجّت المدينة كلّها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبيّ الذي من ناصرة الجليل”(22).

8. يبوس: نقرأ في العهد القديم: “وذهب داوود وكلّ إسرائيل إلى أورشليم أي يبوس. وهناك اليبوسيّون سكّان الأرض. وقال سكان يبوس لداوود: لا تدخل إلى هنا”(23).

9. أسماء أخرى، منها: أريئيل، ومدينة العدل، والمدينة، والمدينة المقدّسة(24).

وما كثرة هذه الأسماء وتعدّدها إلّا نتيجة قدم المدينة، وشهودها دعوات الأنبياء، وهو ما سنتحدّث عنه في العدد القادم بإذن الله.

1- يبوس: من أقدم أسماء مدينة القدس، واليبوسيّون هم سكّان القدس الأصليّون وأوّل من سكنها.
2- معجم البلدان، الحموي، ج 5، ص 140.
3- تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج16، ص41.
4- فتوح البلدان، البلاذري، ج 1، ص 15.
5- تفسير الميزان، مصدر سابق، ج3، ص308–309.
المصدر نفسه، ج 13، ص 391.
6- التفسير المبين، محمد جواد مغنية، ص 365.
7- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، ج1، ص183.
8- راجع: معجم البلدان، مصدر سابق، ج 5، ص 170 – 171.
9- راجع: المصدر نفسه، ج 5، ص 166.
10- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 225.
11- معجم البلدان، مصدر سابق، ج 1، ص 293.
12- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج18، ص385.
13- صحيح مسلم، مسلم النيسابوري، ج4، ص126.
14- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي (مترجم: نجفي )، ص 141.
15- بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 87، ص 115.
16- المصدر نفسه، ج 4، ص 107.
17- راجع: المصدر نفسه، ج 4، ص 105.
18- المصدر نفسه، ج 13، ص 168 – 169.
19- قاموس الكتاب المقدّس، مجمع الكنائس الشرقيّة، ص 129 – 130.
20- الكتاب المقدّس (العهد القديم)، الكنيسة، ص501.
21- المصدر نفسه، ص 38.
22- المصدر نفسه، ص 650.
23- راجع: قاموس الكتاب المقدّس، مصدر سابق، ص 129 – 130.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل