إنَّ السراب خادع، يُغَذِّي الأوهام، ويؤدي إلى الخَيبة، ويستهلك الوقت والجُهد دون فائدة، وهو مؤقت لا يدوم ولا يستمر، والسَّعي وراء السراب يعقبه الحِرمان، وخسارة الجُهد والوقت، وبهذا يختلف عن الحقيقة، فالحقيقة واضحة، وثابتة، ودائمة، وتحقَّق لمن فاز بها الأمان، والرضا، وتقوده إلى النجاح، والسعادة الحقيقية، والنفع الدائم.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ سَعى في طَلَبِ السَّرابِ طالَ تَعبُهُ وَكَثُرَ عَطَشُهُ”.
في جوهرته الشريفة هذه يقدم لنا الإمام أمير المؤمنين درساً عظيماً يحتاجه كل فرد منا كي ينجح في حياته ويقدر على تحقيق أهدافه وآماله، وهو درس يعتمد على التمييز بين الحق والباطل، وبين الحقيقة والوهم، وبين السَّعي المُثمر والسَّعي الضائع الذي لا ثمرة له، وفهم مراد الإمام (ع) يعتمد على معرفة معنى السَّراب.
السَّراب عِلمياً: هو ظاهرة بصرية تحدث بسبب انكسار الضوء عندما يمر في طبقات هوائية مختلفة الكثافة، نتيجةَ الارتفاعِ الشديد في درجة الحرارة، أو بسبب الظروف البيئيّة المحيطة بالمكان، بوجود الأرض المستوية، واختلاف معامل الانكسار، مِمّا يجعلها في حالة تهيّج شديد، حيث تبدو كالماء الملتصق بالأرض، وتعكس صوراً وهميّةً للأجسام وكأنّها مُنعكسة عن سطح مرآةٍ كبيرة، وقد سُميّت الظاهرة بهذا الاسم، لأن الضوء يَسْرُب “يجري” كالماء.
هذا هو التفسير العلمي للسراب، ظاهرة بصرية مُوهِمة، أما في الفكر والعقيدة والأخلاق فالسَّراب يرمز إلى الأوهام، والمظاهر الكاذبة الخادعة، والأعمال الباطلة التي يتوهَّم المرء أنها أعمال ذات جدوى فإذا بها لا شيء، لا نتيجة لها، أو تأتي نتائجها عكس ما يريد فاعلها، وقد استعمل القرآن الكريم هذه المفردة في الأعمال الباطلة، قال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿39/ النور﴾.
إن أعمال الكُفَّار كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعاً كاذباً، فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الرِّيَّ غافلاً عَمّا ينتظره هناك، وفجأة إذا بهذا السائر وراء السراب، الظامئ الذي يتوقع الشراب يصل، فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد اللهَ الذي كفر به وجَحَده، وخاصَمه وعاداه، فيوَفِّيه اللهُ حسابه في سُرعةٍ خاطفة، والله سريع الحساب.
إنَّ السراب خادع، يُغَذِّي الأوهام، ويؤدي إلى الخَيبة، ويستهلك الوقت والجُهد دون فائدة، وهو مؤقت لا يدوم ولا يستمر، والسَّعي وراء السراب يعقبه الحِرمان، وخسارة الجُهد والوقت، وبهذا يختلف عن الحقيقة، فالحقيقة واضحة، وثابتة، ودائمة، وتحقَّق لمن فاز بها الأمان، والرضا، وتقوده إلى النجاح، والسعادة الحقيقية، والنفع الدائم.
مِمَّا سبق يمكننا أن نفهم مراد الإمام أمير المؤمنين (ع) من قوله: “مَنْ سَعى في طَلَبِ السَّرابِ طالَ تَعبُهُ وَكَثُرَ عَطَشُهُ” فهو يشير إلى أن الجهد الذي يبذله الإنسان في تحقيق هدف زائف أو وهمي، يستهلك طاقته وجهده دون جدوى، ويبقى يعاني من العطش، كناية عن الاحتياج الذي لا يُشبَع، لأن ما يسعى إليه غير حقيقي، وبهذا يوجِّهنا (ع) نحو التركيز على الأهداف الحقيقية والابتعاد عن الأوهام التي تبدو برّاقة ولكنها لا تجلب النفع أبداً.
الحِكمة التي نستفيدها من هذه الجوهرة الكريمة، ضرورة اختيار أهداف حقيقية لنا، أهداف يمكننا تحقيقها بما نملك من وسائل وإمكانيات، وما نعمل في إطاره من ظروف، والتفكير المُسبق قبل السَّعي وراء أي هدف حتى نطمئن إلى جدواه، كما نستفيد منها ضرورة الاجتهاد في سبيل الحقائق الثابتة بدلا من الانخداع بالمظاهر الزائفة، وتجنُّب الوقوع في الأوهام المادية أو المعنوية التي تبدو لنا مُغرية، والاتزان النفسي الذي يتجلَّى في عدم التَّعلُّق المُفرط بالرغبات الخادعة الزائفة.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي