تطورات التفسير القرآني في تركيا بين التقليد والحداثة

تطورات التفسير القرآني في تركيا بين التقليد والحداثة

إنّ الباحث التركي “د.عبدالكريم سيد أغلو” يخلص في كتابه “المدرسة التركية الحديثة في التفسير 1995- 2020 م” إلى أن التفاسير التركية ثرية وتحتوي على توجهات مختلفة في نفس الوقت.

ونتيجة انهيار الدولة العثمانية بسبب الحرب العالمية الأولى، بدأ نظام دولة جديد يتشكل في تركيا في كل المجالات، وبدأ تأثير الفهم الجديد والحديث في تركيا من بداية الجمهورية كي يكون بديلاً لانهيار الإمبراطورية العثمانية والتخلف الأخير، ولقد ظهر هذا الفهم الجديد في البلد المولود حديثاً في جميع المجالات من مجال السياسية إلى التعليم ومن مجال الملابس إلى فهم الدين، وتم تبني هذه التغييرات من قبل بعض الأطراف، لأنها كانت حديثة وعلمانية، وينظر إلى الدين في مثل هذه الفترة على أنه سبب التخلف، وحاول هؤلاء صبغ الدين بمنظورهم الحداثي، وروقب هذا الأمر بقلق من قبل المحافظين الذين يحافظون على أصوله.

وإنطلاقاً من هذه الرؤية يأتي كتاب “المدرسة التركية الحديثة في التفسير 1995- 2020” للباحث التركي د. عبدالكريم سيد أغلو”، الصادر أخيراً عن دار الخليج، والذي يرصد تطورات وتحولات التفسير القرآني في تركيا خلال القرن العشرين قبل وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الجمهورية على يد مصطفى أتاتورك، وكذلك علاقته التفاسير بالتفاسير العربية.

وأكد أغلو أن ثورة أبجدية الحروف اللاتينية ظهرت مع الابتكارات الثورية التي انطلقت في العديد من المجالات منذ تأسيس الجمهورية في المجال الديني، واكتسبت البنية العلمية بعدها شكلها الجديد، وقد أدى هذا الفهم الوطني الذي ظهر نتيجة هذا التغيير إلى ظهور منتجات تركية جديدة بمنظور إصلاحي وابتكاري، كان هذا التغيير قد حصل أيضاً في مجال التفسير وظهرت عادة كتابة التفاسير باللغة التركية.

ورأى أن علم التفسير تأثر بالأيديولوجيات التي تبنتها الجمهورية، وأدت الأنماط الجديدة والمختلفة والمتزايدة في التأثير المباشر على تشكيل هويات التفاسير، وقد تأثرت حركات التفسير في تركيا إلى حد كبير بالظرف السياسي والتطور العلمي والفكري.

وأضاف أن دراسته تهدف إلى إقامة علاقة بين التفسير التركي والعربي، ولهذا الغرض تسعى الدراسة إلى التعامل مع تطور التفسير في تركيا منذ الجمهورية، حيث تزايد الطلب على علم التفسير في الآونة الأخيرة ولم يتم الاعتراف بها من قبل العالم العربي كون اللغة التركية لغة أجنبية بالنسبة إلى العرب. ولهذا تلفت هذه الدراسة الانتباه إلى ولادة وتشكيل كتابة التفاسير في تركيا مع بيان منهج هذه التفاسير، والكشف عن حركات التفسير في تركيا ما بين عامي 1995 ـ 2020.

وأوضح أن العثمانيين اهتموا بالدراسات الإسلامية، ومن ضمن اهتمامهم كان الاهتمام بعلم التفسير، ويظهر هذا الاهتمام في كثرة المؤلفات في علم التفسير، وقد استمر التأليف في هذا العلم حتى بعد انتقال نظام الحكم إلى النظام الجمهوري سنة 1924. لكن منذ بدايته تراجعت الدراسات الإسلامية، وتوقف التأليف في تفسير القرآن إلا قليلاً.

وتابع أغلو: “منذ عام 1923 إلى 1970 م كتب عدد من تفاسير القرآن الكريم، وكل هذه التفاسير كتبت باللغة التركية، وكذلك كان التركيز في هذه الفترة على عملية الترجمة من المصادر العربية إلى التركية، فبذل العلماء الأتراك في هذه الفترة أكثر جهودهم في الترجمة، وليس في التأليف المستقل في علم التفسير. ومنذ سنة 1970 زاد عدد كليات الشريعة والمدارس الثانوية المختصة في إعداد الأئمة والخطباء، وزاد الاهتمام بدراسة العلوم الإسلامية، ومنذ ذلك الوقت بدأت حركة التأليف في تفسير القرآن بصورة كبيرة”.
تطورات التفسير القرآني في تركيا بين التقليد والحداثة
وتوقف أغلو مع أبرز التفاسير التي كتبت في تركيا ما بين (1995 – 2020) حيث ألقى نظرة عامة على أبرز التفاسير التركية، مع بيان مختصر لاتجاهاتها، مثل: الاتجاه الاجتماعي، والحداثي، والسلفي وغير ذلك، ومن بينها: تفسير (يني بر آنلايشن إشغندا كرآن تفسيري) الذي نشر في 21 مجلداً، وهو أكبر تفسير مكتوب باللغة التركية بعد موسوعة القرآن (قرآن آنسكلوفدسي) لسليمان آتش، كتبه “بايراكدار بايراكلي”، وقد نشره لأول مرة بواسطة دار الإشارة في عام 2001 ثم نشرته دار البايراكلي، وصدر المجلد الأخير في عام 2007.

وتفسير “بصائر القرآن” لـ”طلاب علي كوجوك”، والذي نشر لأول مرة في قونية عام 2003 في 20 مجلداً. وتفسير (قرآن يولو ترجمة مآلي وتفسيري) وهو التفسير الذي كلفت رئاسة الشؤون الدينية أربعة من المختصين (د.خير الـدين كرمـان، د.إبـراهيم كافي دونمز، د.صدر الدين جموش، د.مصطفى جغرجي) لكتابة هذا التفسير، حيث طلب منهم أن تكون كتابتهم بناء على احتياجات المجتمع التركي، ويتكون هذا التفسير من خمس مجلدات، وقد نشر لأول مرة في عام 2003 واستمر نشر بقية الأجزاء بسبب الاهتمام الشعبي به. وتفسير القارئ (أوكيوجو تفسيري) ساهمت المرأة في تركيا برفد ميدان تفسير القرآن بتفاسير جديدة في فترة الجمهورية، ومن هذه التفاسير تفسير القارئ، والذي كتبته: سمرا كورن جشمجيل في العهد الجمهوري، ولدت في ملاطيه، وتلقت كل دراستها على والدها محمد سعيد جشمجيل “الملقب بـ”الخياط العالم”.

وأشار إلى أن التفاسير المكتوبة في الربع الأخير من القرن العشرين كانت الأعلى في مستوياتها منذ بدء تاريخ الجمهورية، وهذه التفاسير أكثر من التفاسير المكتوبة باللغة التركية في العهد العثماني، ويمكن القول إن كتابة التفسير التركي قد تحولت في هذه الفترة إلى تقليد عرفي على عكس الفكرة الأولى التي تعتمد عملية الترجمة والتفسير، وقد أدى هذا التقليد إلى زيادة كتابة التفسير المستقل، وكذلك إلى زيادة التفاسير المترجمة إلى اللغة التركية، وإلى زيادة ترجمات القرآن التي تعنى بمعاني القرآن.

إن معظم هذه التفاسير كتبت بصورة فردية، وبعضها كتب من قبل لجنة، وبعض هذه التفاسير انتهي من كتابته وبعضها لا يزال قيد الكتابة، في حين من الممكن تصنيف بعض هذه التفاسير في أيديولوجية معينة، وفي حين ليس ممكناً ضبط بعضها وتحديد اتجاهها، فإن أكثر التفاسير المكتوبة في عهد الجمهورية تتبنى تفسير القرآن حسب ترتيب النزول، وبعضها كتب وفق ترتيب المصحف. بشكل عام، كتبت الدراسات باسم التفسير من قبل العديد من الأكاديميين في علم الشريعة، ومن العديد من العلماء الذين هم في موقع الباحثين الذين يتممون دراساتهم مستقلين. وعلى الرغم من أن التفاسير التي كتبها الباحثون غير الأكاديميين أكثر من تفاسير الأكاديميين، إلا أنها ليست في نفس الفئة من حيث الجودة والكفاءة؛ لأن بعض هذه الدراسات كتبت نتيجة هوس أيديولوجي أو لتبيين محتوى القرآن فقط.

وأكد أغلو أن كتابة التفسير أصبحت عادة في تركيا، واكتسبت زخاماً كبيراً منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأكثر هذه التفاسير معقولة ومقبولة وبعضها توصف بأنها تفسير للقرآن مع عدم العلاقة بينها وبين علم التفسير لا من قريب ولا بعيد، ويبدو أن كتابة التفسير ستستمر، وستنتشر في بيئات تركية متعددة.

وقال إن فكر الحداثة الجديدة يتبنى النهج التاريخي للقرآن، وأن بيئة الوحي التي نزل فيها القرآن هو الأساس في تفسير القرآن، وأن القرآن هو ضرورة ذلك الوقت والظروف، ويعتقد مفكرو هذا الاتجاه أن القرآن يخاطب مجتمع هذا التاريخ فقط دون أن يشتمل على كل الظروف والأوقات، ويقتضي هذا الفهم تفسير القرآن في إطار أسلوب القراءة التاريخية، التي تهدف إلى وضع النفس في مكان المؤلف بحيث يمكن فهم القرآن كالمتكلم، فقد ظهرت هذه القراءة فيما سبق كطريقة مطبقة لفهم الكتاب المقدس المحرف.
تطورات التفسير القرآني في تركيا بين التقليد والحداثة
وتوصل أغلو إلى أن تفاسير الأتراك في تركيا يمكن تقييمها في فئتين: تفاسير مكتوبة بأسلوب يخاطب المجتمع ويمكن أن يفهمه المجتمع، ومعظم التفاسير التي كتبها الباحثون تقع في هذا القسم، وتفاسير مكتوبة بأسلوب علمي، ويوجد فيها تأويلات وآراء مختلفة ومناقشات حول علم التفسير، وهذه التفاسير هي تفاسير الأكاديميين، والتي كتبها في الغالب أساتذة الجامعات.

وأوضح أن التفاسير المكتوبة في تركيا لا يحدها الاتجاه الفقهي أو الاجتماعي، كونها تشتمل على اتجاهات أخرى أيضاً، ولذلك ينبغي فهم مسار الاتجاهات في تركيا من خلال الاقتباس من هذه التفاسير بدلاً من تصنيف التفاسير في تركيا في فئة واحدة فقط. الخلاصة؛ لا تتشكل التفاسير في تركيا بشكل عام حول اتجاه واحد، بل تظهر في موقف يجمع بين العديد من الاتجاهات، فمنذ بدأت كتابتها منذ السنوات الأولى للجمهورية اعتمدت على منهج الرواية، إلا أنها حينما بدأ تطور علم التفسير تحولت البنية التفسيرية تدريجياً منذ السبعينيات إلى الحداثية والعلمية والاجتماعية وغير ذلك. إلا أن الاتجاه التقليدي أو الأثري في التفسير، والذي يعد إلى حد كبير استمراراً للخط العثماني لم يفقد أهميته أبداً في المجتمع العلمي التركي.

ومما خلص إليه أغلو أن التفاسير التركية وصلت إلى ذروتها بين عامي 1995 – 2020، وتتميز بأنها ليست على اتجاه واحد، بل هـي تفاسـير ثرية تحتوي توجهات مختلفة في نفس الوقت. وبالرغم من أن ثقل بعض التوجهات مثل العلمية والمذهبية والإشارية والعقلانية والاجتماعية محـسوس في بعـض التفاسـير، إلا أن معظـمها لا يعد ضمن هذه التوجهات.

ـ إن المفسرين الأتراك يميلون إلى حد ما إلى الاتجاه الاجتماعي، ومع ذلك، فلم يكن هذا الاتجاه نقيا وفيه إفراط ظاهر، بل تحقق في شكل توجيه المجتمع، إما في شكل الوعظ، أو بتثقيف المجتمع، أو بمعنى تربية وتعليم المجتمع.

ـ الاتجاه العلمي مضى في مستوى معتدل، وتم تفـسير الآيات من حيث التصريحات العلمية بالنظر إلى شروط التفسير العلمي، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان هناك من تطرف وغالى في التفسير العلمي وهم قليل نسبيا مقارنة بالآخرين.

ـ بعض المفسرين الأتراك يعارضون التفسير العلمي وبعضهم يدرجونه في تفسيره، وهناك أيضا العديد من التفاسير التي تتضمن التأويلات الإشارية والنظرية والفلسفية أيضاً.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل