إن الإسلام يحثُّ على زيارة الإخوان كثيراً، ويؤكد خاصَّة على زيارة الأرحام، ويعتبرها صِلَة، ويكشف عن أن لزيارة الإخوان وصِلَة الأرحام آثاراً طيبة على الزائر والمزور، أقلها زيادة العمر، وزيادة الرزق، وأهمها اعتبار الزائر زائراً لله.
و رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ كَثُرَتْ زِيارَتُه قَلَّتْ بَشاشَتُهُ”.
معادلة أخرى تحكم العلاقات الاجتماعية، وتدعو إلى التوازن فيها، دون خروج عن حد الاعتدال، والاعتدال مطلوب في جميع مناحي الحياة الإنسانية، الفردية والاجتماعية، فما زاد أو نقص عنه أحدث خللاً فيها.
هذه المعادلة تقدم لنا طريقة فريدة لإدارة العلاقات الاجتماعية بأسلوب يضمن استدامتها بعيداً عن المَلَل والفُتور، وتحثُّنا على الاعتدال في زيارة الإخوان والأصقاء، وحتى الأهل والأرحام، بطريقة تعزِّز العلاقة معهم وتجعلها أكثر دفئاً ووداً.
مِمّا لا شك فيه أن إِلفَتَنا للشيء تُقَلِّل من أهميته لدينا، وهكذا الأمر في الكثرة والوفرة، فإذا كَثُرَ شيء وكان وَفيراً قلَّت قيمته وأهميته، أما إذا عَزَّ الشيء ونَدَر ارتفعت قيمته وعَلَت أهميَّته، إن هذا القانون لا يقتصر على الأمور المادية، بل يشمل الأمور المعنوية، والعلاقات الاجتماعية، إذا زُرتَ أخاك أو صديقك أو قريبك يومياً فلربما قلت أهميتك عندهم، حيث لا تدع لهم مجالاً ليشتاقوا إليك، وقد تصير ثقيلاً عليهم يهربون منك، خاصة إذا كنت تطيل الجلوس عندهم، وتسألهم عن كل شيء، وتتدخَّل في كل أمر من أمورهم.
عندما يكثر الشخص من زيارة الآخرين، فغالباً ما يتسبِّبُ لهم بإرهاق نفسي حيث يستنزفهم نفسياً، فضلاً عن الإرهاق المادي، وحين يُصبح اللقاء أمراً روتينياً مكرراً يفتقد الآخرون الشوق، وتنعدم مشاعر البهجة والتقدير لديهم، فالبشر بطبيعتهم يميلون إلى تقدير الشيء النادر أو القليل، كما سبق وذكرت، فعندما تتكرر الزيارات وتكثر تفقد قيمتها ومعناها، مِمّا يؤدي إلى تقليل الحفاوة والبشاشة تجاه الزائر.
إن الإسلام يحثُّ على زيارة الإخوان كثيراً، ويؤكد خاصَّة على زيارة الأرحام، ويعتبرها صِلَة، ويكشف عن أن لزيارة الإخوان وصِلَة الأرحام آثاراً طيبة على الزائر والمزور، أقلها زيادة العمر، وزيادة الرزق، وأهمها اعتبار الزائر زائراً لله، وضيفاً لله، وقِراه على الله تعالى، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “مَنْ زارَ أخاهُ المُؤْمِنَ إلى مَنزِلِهِ لا حاجَةً مِنهُ إلَيهِ، كُتِبَ مِنْ زُوّارِ اللَّهِ، وكانَ حَقيقاً على اللَّهِ أن يُكرِمَ زائرَهُ”.
ورُوِيَ عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “مَنْ زارَ أخاهُ في اللَّهِ قالَ اللَّهُ عزّوجلّ: إيّايَ زُرْتَ وثَوابُكَ عَلَيَّ، ولَسْتُ أَرْضَى لَكَ ثَواباً دُونَ الجَنَّةِ”
وأعلن رسول الله (ص): أن ثواب الزائر أخاه أعظم عند الله من ثواب المُزور، والسبب في ذلك أن الزائر هو الذي يبادر إلى هذه الصلة التي تُعَمِّق العلاقة بينه وبين أخيه، والله تعالى يريد للمجتمع المؤمن أن يكون صَفّاً واحداً كأنهم بُنيانٌ مرصوص، لذا قال (ص): “الزَّائِرُ أَخَاهُ المُسْلِمَ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ المَزورِ”.
لكن الإسلام في الوقت عينه جعل آداباً للزيارة وحثَّ على مراعاتها، ودعا إلى الإقلال منها والإسراع فيها، أي لا يُكثر من الزيارة بحيث لا تكون يومية، ولا يُطيل البقاء عند أخيه أثناء زيارته، بل يفسح له المجال ليقوم إلى أعماله، أو ليرتاح إن أراد الراحة، فقد رُوِي رسول الله (ص) أنه قال: “زُرْ غِبّاً تَزدَدْ حُبّاً” وجاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع) قوله: “إغبابُ الزِّيارَةِ أمانٌ مِنَ المَلالَةِ”.
إن رسول الله (ص) والإمام (ع) يقدمان هنا نصيحة مهمة توازن بين حقوق الزيارة وآدابها، حيث لا يدعوان إلى قطع التواصل أو الامتناع عن الزيارات، بل يدعوان إلى تنظيمها بحيث تبقى العلاقات الإنسانية في إطار صحّي ومثمر.
لذلك من المُهِمِّ جداً الاعتدال في الزيارة من حيث أصلها، ومن حيث كيفيتها، فلا يكثر منها، ولا يطيلها عن الحد المعقول، وأن يحرص الزائر على مراعاة ظروف الشخص الذي يزوره، ومن المُهِمِّ أن يركِّز على نوعية الزيارة لا كميتها، فيمكنه أن يقضي عنده وقتاً قصيراً ولكنه مليئ بالفائدة، وهذا أفضل بكثير من تكرار الزيارة وملئها باللهو واللغو، ويمكنه أيضاً أن يتواصل معه بطرق مختلفة خصوصاً في أيامنا هذه حيث تتوفرة الوسائل الكثيرة لذلك.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي