قال الله تعالى في محكم كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴿51﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴿52﴾ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴿53﴾.
ويذكر المؤرخون وأهل التفسير أنه بعد غزوة “أحد” في السنة الثالثة للهجرة، جاء زعماء اليهود برئاسة “كعب بن الأشرف”، ونزلوا على أهل مكة،بعد القرح الذي أصاب المسلمين في تلك الغزوة، وتفاهموا مع أبي سفيان على استمرار المواجهة مع النبي(ص) وكان من جملة الأسئلة التي توجه بها أبو سفيان لليهود،كيف لكم أن تنصرونا وأنتم أهل كتاب مثلكم مثل محمد(ص)، فما الذي يدرينا أنكم متفقون معه علينا!؟
فكان جواب اليهود أنتم أهدى سبيلًا من الذين آمنوا،وهم لأجل تمرير خديعتهم اعترفوا بأصنام قريش،وآمنوا بالجبت والطاغوت،واعترفوا بهم دجلًا ونفاقًا وعنادًا لمحمد(ص) ومن آمن به! ولهذا نجد الآيات من سورة النساء توضح حقيقة ما ينتهجه اليهود من مسلكية في الطريق إلى مصالحهم الدنيوية،رغم أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب،وكان يفترض بهم أن ينصروا النبي(ص) على صنمية قريش!
فالقرآن الكريم يبيّن لنا حقيقة موقف هؤلاء،وكيف أنهم لا يتورعون عن الكذب والنفاق والتحريف،ليكونوا أسيادًا وأصحاب سلطة ومال! ثم نرى الآية تقول،وهي بمثابة معجزة قرآنية:”أم لهم نصيبٌ من الملك،فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا”.والنقير،هو النقطة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة،فهم لا يؤتون الناس بمقدار ذلك فيما لو كان لهم سلطان ودولة،وهذا هو ديدن أحزاب بني إسرائيل في تاريخهم مع الأنبياء،أنهم لا يكترثون لأمر الله،وينسبون لأنفسهم من الفخر والتزكية ما لا يرونه لغيرهم من عباد الله.!
فالآية المعجزة تظهّر هذا المعنى،وترشد إلى أن أحزاب بني إسرائيل وعلى رأسهم اليهود فيما لو ملكوا وكانت لهم دولة،فإنهم لن يعطوا أحدًا شيئاً،بل يستأثرون بالخيرات،ويعيثون في الأرض الفساد باسم الرب والدين والشعب المختار! وحاصل معنى الآية،كما يقول أهل التفسير،هو أن هؤلاء اليهود أصحاب أثرة وشح مطاع يشق عليهم أن ينتفع منهم أحد،فإذا صار لهم ملك منعوا الناس من حقوقهم،وحالوا دون حقوق الناس،ولهذا هم انتظروا النبي(ص)،ولما لم يأتِ بما تهوى أنفسهم،وجاء من العرب،خرجوا عليه،ومكروا به،وصعب عليهم الخضوع له!
ومن المفيد هنا نقل ما أورده صاحب تفسير المنار “محمد رشيد رضا” عند تفسير هذه الآية منذ ستين عامًا حين كانت فلسطين تحت الحكم العثماني،قال ما نصه بالحرف:”…فإن تم لهم ما يسعون إليه من إقامة دولة في فلسطين يطردون المسلمين والنصارى منها،ولا يعطونهم نقيرًا،فيجب على العثمانيين أن لا يمكّنوا لليهود في فلسطين،ولا يُسهّلوا لهم امتلاك أرضها،وكثرة المهاجرين إليها،فإن في ذلك خطرًا كبيراً…”،فالآية،كما يرى المفسر لا تثبت ولا تنفي ملك اليهود في فلسطين،وإنما بيّنت ما تقتضيه طباعهم من العمل في فلسطين وغيرها لو ملكوا.
ولهذا نرى العلامة مغنية في تفسيره الكاشف يُعقّب على على كلام “رشيد رضا”،بالقول:”كان هذا الكلام منه قبل أربعين عامًا من قيام دولة إسرائيل في فلسطين،وهذا إن دل على شيء ،فإنه يدل على صدق محمد(ص) في نبوته ورسالته،إذ هو يخبر بوحي من السماء،قبل ألف وثلاثمائة سنة،أن اليهود لو ملكوا لكان منهم ما حدث في سنة ١٩٤٨،وسنة ١٩٦٧،وكل ما كان منهم إلى يومنا هذا…!؟
إنها النبوءة القرآنية التي تنذر العرب والمسلمين أن يكونوا على حذر من مكائد ومصائد أحزاب بني إسرائيل،فإذا كان العثمانيون قد أخفقوا،أو تآمروا على فلسطين،فليس على العرب والمسلمين الوقوع في أشراك الحزبية اليهودية المقيتة،لكونها تهدّد وجودهم،وتسعى لتوسيع ملكها على حسابهم،وقد تبيّن لهم من ممارسات اليهود حقيقة مكرهم ودهائهم في ما أبرموه معهم من اتفاقات ومعاهدات تضمن لهم مزيدًا من الخيرات في بلاد العرب والمسلمين،وما يجري في غزة فلسطين ولبنان وسوريا واليمن خير دليل على ذلك،فهم لم يقدّموا ادنى التنازلات لا في الأرض،ولا في السياسة،ولا في الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني،!
فالقرآن يؤكد على هذه الحقيقة،ويدعو إلى التربص بهؤلاء للحيلولة دون أن يكون لهم ما يسعون إليه من توسع في ظل ما هم عليه العرب والمسلمون من بلاء في الدين والدنيا! فغزة فلسطين ينبغي أن تكون درسًا لمن يتّعظ ويعتبر،فالله أصدق القائلين،وقد قال تعالى:”ولا ينبئُك مثل خبير.”.إنها المعجزة القرآنية الخالدة،التي يُفترض بالعرب والمسلمين أن يكونوا على علم بها،لكونهم أوتوا نصيبًا من الكتاب،أم أن الموقف هو أن يُترك لليهود مزيدًا من الأرض والملك،ليستمروا في عدوانيتهم ضد العرب !.؟فالحزبية اليهودية بأي ثوب كانت،وعلى أي نحو ظهرت،لا بد أن تواجه بالوحدة والموقف الجهادي لحماية ما تبقى من بلاد المسلمين،لأن التولي لليهود جعلهم أولياء في بلادنا،وقد نهى الله عن ذلك،متوعدًا عليه بالعذاب العظيم.
كما قال تعالى:”ومن يتولّهم منكم، فإنه منهم.إن الله لا يهدي القوم الظالمين..”.فعلى العرب والمسلمين أن يتدبّروا في آياته،ليدركوا حقيقة معجزاته،وليكونوا على حقيقة الموقف المراد منهم قبل خسارة المزيد من الأرض والخيرات والمقدسات،فكل شيء أصبح متاحًا لليهود في ظل ما استقطبوه من معونات ودعم خارجي ضد العرب والمسلمين،وليس ضد فلسطين وحسب،فهؤلاء كما نعلم من كتاب ربنا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله،ويمكرون بكل الطوائف والمذاهب،فلا ينبغي التلهي بالمال والسلطة وحماية المكاسب الخاصة بالحكام،لتكون النتيجة ضياع كل شيء.!
فهؤلاء إن تمكنوا،وقد تمكنوا من بلادنا،وملكوا أسباب القوة والنفير ما يمكّنهم من التوسع في الأرض،ولن يتمكن العرب والمسلمون من الاستحصال على أدنى النفع مما يراه هؤلاء حقًا إلهيًا لهم دون غيرهم،فإذا ما تدبّرنا في آيات ربنا وما أوحاه لنا من معجزات،فإن من شأن ذلك تظهير حقيقة ما تغيّب عنه المسلمون في تاريخهم،وأخرجهم مما كانوا فيه من عزة وكرامة.إن الحزبية اليهودية اليوم تخرج بأبرز تجلياتها ما يقتضي المزيد من التربّص في مواجهة الصنمية الجديدة بكل تحالفاتها اللعينة.والسلام.
بقلم أ.د. فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان