لقد توعّد الله تعالى المضيّعين للصلاة بالغيّ عندما قال: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾[1]، كذلك هدّد الله الساهين عن الصلاة بالويل فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[2]، لأنّ في الصلاة الكثير من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها هؤلاء فقط بل وللأسف لا يعقلها كثير ممّن يؤدّيها، ومن بين هذه الأسرار والحكم: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[3]، حيث إنّ في الصلاة أعمالاً قلبية من نية، واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يُذكّر بأنّ المعبود جدير بأن تمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإنّ الله قال: ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، ولم يقل تصد وتحول أي أنّ الصلاة بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا تفعل الفحشاء والمنكر، وذلك لأنّ فيها التكبير والتسبيح، والتهليل والقراءة والوقوف بين يدي الله تعالى، وغير ذلك من صنوف العبادة كما قد سلف، وكلّ ذلك يدعو إلى شكله، ويصرف عن ضدّه، فيكون مثل الأمر والنهي بالقول، وكلّ دليل مؤدٍّ إلى المعرفة بالحقّ، فهو داع إليه، وصارف عن الباطل الذي هو ضدّه، وقد قال مولانا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): “اعلم أنّ الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته، فلينظر فإنْ كانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنكر، فإنّما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز، ومن أحبّ يعلم ما له عند الله، فليعلم ما لله عنده”[4].
وروى (عليه السلام) عن آبائه الكرام (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: “لكلّ شيء وجه، ووجه دينكم الصلاة، فلا يشينن أحدكم وجه دينه”[5].
وروى الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “ليس عمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة، فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ أقواماً، فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[6]، يعني: أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها”[7]. وما أكثر السذّج وقصيري النظر الذين حرموا أنفسهم من السعادة الكاملة بالغفلة عن هذا السرّ العظيم في الوجود، سواء من خلال الانغماس في العمل الماديّ أو في أوقات الفراغ والكسل، وأينما حلّوا هووا بأنفسهم في مستنقع الحرمان والإخفاق بشكل أو بآخر[8].
النائمين في الخلوات
من طبيعة الإنسان أنّه إذا خلى بنفسه أن يكون النوم أحد وسائل راحته، وأسباب لذّته، فهل أراد مولانا الإمام الصادق عليه السلام من الإنسان أن يمتنع عن نومه في خلواته؟
نقول بالتوكّل على الله تعالى: حاشا للبحر الرائق وكنز الحقائق الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن يطلب ذلك، وخصوصاً أنّه قد أوصى عبد الله بن جندب بكلمات قبل هذه الكلمات التي أوردناها، فقال له : “يا ابن جندب: أقلّ النوم بالليل، والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء أقلّ شكراً من العين واللسان، فإنّ أمّ سليمان قالت لسليمان عليه السلام: يا بنيّ إيّاك والنوم، فإنّه يُفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم”[9].
في هذا النصّ طلب الإمام (عليه السلام) من المؤمن أن يقلّ النوم في الليل، والكلام في النهار لأنّ العاقل لا ينام إلا بقدر الضرورة، ويجعل نومه وسيلة إلى عبادة أخرى، ولا شكّ أنّ نومه على هذا الوجه عبادة مستندة إلى العقل، ونوم العاقل في الحقيقة معراج له، وهذا غير قوله عليه السلام: “ويل للساهين عن الصلوات، النائمين في الخلوات”[10]، حيث يظهر أنّ الإمام (عليه السلام) أراد بقوله هذا: الساهين عن الصلوات.النائمين في الخلوات أي: الذين يُطلقون العنان لأنفسهم، فيرتكبون المعاصي، ويُقارفون الذنوب في الخلوات، ولا يتيقّظون فيرقبون حدود الله تعالى، فشبه هؤلاء القوم بالنُوّم، وهؤلاء بعيدون عن الإيمان لأنّ المؤمن المتيقّظ يُراقب الله تعالى في خلواته، في سرّه، فلا ينتهك حرمة الله، لأنّه يعلم أنّ أعماله مهما دقّت ومهما صغرت، فإنّ الله مطّلع عليها، ولديه يقين وتصديق بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾[11]، فالواجب على المسلم أن يحذر من ذنوب الخلوات، وليعلم أنّ الله تعالى قد ذمّ من يستخفي بذنبه من الناس، ولا يستخفي من الله، فقال جل شأنه: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾[12].
ومُراد الإمام (عليه السلام) بقوله: “ويلٌ … والنائمين في الخلوات”، أنّ هؤلاء النائمين في الخلوات ويل لهم لم يستفيدوا من تلك الخلوات في تطهير الروح، وتزكية النفس، وتهذيب الخلق، وتقويم السلوك، وتقوية العزيمة الصادقة، والأنس بالله تعالى، فإنّه من كان الله أنيسه في خلواته في الدُّنْيَا، فإنَّه يُرجى أن يكون أنيسه في ظلمات اللحود إذا فارق الدُّنْيَا، والقوم المذكورون لم يستفيدوا من الخلوات في شيء من هذا الفضل العميم، وقد كان من دعاء صاحب هذه الوصيّة في خلواته: “اللهُمَّ هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، وَخَلَا كُلُّ حَبِيبٍ بِحَبِيبِهِ، وَخَلَوْتُ بِكَ أَنْتَ الْمَحْبُوبُ إِلَيَّ، فَاجْعَلْ خَلْوَتِي مِنْكَ اللَّيْلَةَ الْعِتْقَ مِنَ النَّارِ”[13].
* كتاب طلائع القلوب- سلسلة الحياة الطيبة، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافيّة
[1] سورة مريم، الآية 59.
[2] سورة الماعون، الآيتان 4-5.
[3] سورة العنكبوت، الآية 45.
[4] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص236-237، باب معنى ما روي أن الصلاة حجزة الله في الأرض.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص267، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها.
[6] سورة الماعون، الآية 5.
[7] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص107، باب وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها.
[8] سماحة الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي (دام ظله)، من أعماق الصلاة، ص73، طبعة جمعية المعارف الإسلامية.
[9] أبن شعبة الحراني، تحف العقول، ص301.
[10] مفردها خلوة: يقال: “..انفرد به في خلوة، ويقال خلا بنفسه، وخلا إليه، وخلا معه انفرد، ويقال اخل بأمرك تفرد به وتفرغ له، واخل معي حتى أكلمك كن معي خاليا..” يراجع المعجم الوسيط، ج1، ص254.
[11] سورة الحديد، الآية 4.
[12] سورة النساء، الآية 108.
[13] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص594.