إنّ المبالغة فيما يتوقّعه الصديق من صديقه تولِّد الشعور بالتقصير معه، وقد يتعاظم ليصل مرحلة الشعور بالظلم، مِمّا يؤدي إلى تفكّك وانهيار العلاقة بينهما.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْ صَديقِه إِلاَّ بِإِيثارِه عَلى نَفْسِه دامَ سَخَطُهُ”.
على الرغم من العلاقة الوطيدة التي تكون بين الصديقين بحيث تتقدم على سواها من العلاقات، والتي عبَّر عن مكانتها وعمق رابطتها الإمام أمير المؤمنين (ع) إذ قال: “الصَّديقُ أقرَبُ الأقارِبِ” وقال أيضاً: “الأصدِقاءُ نَفسٌ واحِدَةٌ في جُسُومٍ مُتَفَرِّقَةٍ”، على الرغم من ذلك فإن الصداقة لا تلغي خصوصيات الصديقين، فلكلٍ منهما أو منهم خصوصياته، وسماته، وبصماته، ولكل منهما أفكاره وآراؤه، ولا يمكن أن يكون أحدهما نُسخة طبق الأصل عن صديقه.
المعادلة التي يكشف عنها الإمام (ع) تعبِّر عن رؤية عميقة لطبيعة الصداقة من منظور قائم على فهم واقعي لها ولطبيعة كل من الصديقين، وما يمكنهما وما لا يمكنهما فعله، وحدود المتوقع منهما، فالإمام (ع) يلفت إلى أن من يشترط على صديقه أن يُفضّله دائماً على نفسه في كل الأحوال، فإن سُخطه لن ينتهي، لأن هذا الشرط يتنافى مع طبيعة البشر التي تجمع بين الخير والنقص، ولذا فإن الصداقة الحقيقية لا تُبنى على إلزام الصديق بتقديم الآخر على نفسه في كل شيء، بل على التوازن بين الحقوق والواجبات.
مِمّا لا جدال فيه أن الإيثار فضيلة مهمة من بين الفضائل الأخلاقية، لكن جعله شرطاً دائماً للرضا عن الصديق يؤدي إلى النتائج السلبية التالية:
أولاً: استحالة تحقيق الشرط: لأن الإنسان بطبيعته غالباً ما يُقدِّم حاجاته على حاجات الآخر ولو كان صديقه المقرَّب، فما يتوقعه الصديق من صديقه يعلم أنه قد لا يفعله هو مع صديقه، وإن فعله مرة أو مرتين فقد يتعذَّر فعله دائماً لتزاحم الحاجات والأولويات، ومِمّا لا جدال فيه إنه إذا دار الأمر بين أن يُؤثِر صديقه على نفسه، أو يُؤثِر نفسه على صديقه وكانت الأولوية له فمن الواجب أن يُؤثِر نفسه على صديقه.
ثانياً: إن المبالغة فيما يتوقّعه الصديق من صديقه تولِّد الشعور بالتقصير معه، وقد يتعاظم ليصل مرحلة الشعور بالظلم، مِمّا يؤدي إلى تفكّك وانهيار العلاقة بينهما.
ثالثاً: إن هذا اللون من التوقعات من الصديق مع عجزه عن الوفاء بها يؤدي حتماً إلى إدامة السُخط عند صديقه، وهذا يتناقض مع روحية الصداقة، فالصديق يرتاح لصديقه ويأنس به، ويتقوَّى به، فإذا كان دائم السُخط عليه فأي قيمة لصداقتهما.
فضلاً عمّا سبق فلا جدال في أن قيمة الإيثار تنبع من كونه عملاً اختيارياً يفعله المَرء باختياره، فلو كان مفروضاً لصار واجباً ومعه يفقد قيمته، ناهيك عن أن جعله إلزامياً يناقض قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴿البقرة: 286﴾.
نستفيد مِمّا سبق:
أولاً: ضرورة أن نضبط توقعاتنا من أصدقائنا، فلا نتمادى بها، ولا نجعل محبتنا لهم مشروطة بتقديمهم كل شيء لنا.
ثانياً: ضرورة التركيز على العطاء المتبادل، فنبادر نحن أيضاً إلى الإحسان إليهم بما نَقْدِر عليه، ونقبل منهم أن يبادلونا بما يَقْدِرون عليه.
ثالثاً: ضرورة التسامح مع تقصيرهم معنا، وتفهُّم ظروفهم وحدود قدرتهم المادية والمعنوية.
رابعاً: ضرورة الصِّدق معهم، وبناء علاقة صريحة تتيح لنا التعبير عن احتياجاتنا دون إلزامهم بشيء منها.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي