يحصل تأثير شبكات التواصل الاجتماعيّ في الرأي العام من خلال ثلاثة مستويات مترابطة:
1. المستوى العاطفي: حيث إنَّ تزايد المجموعات عبر الشبكات يؤدّي إلى إعادة صياغة العواطف والتأثير في الأذواق والاختيارات بناءً على النموذج الـمُقدَّم في هذه المجموعات.
2. المستوى المعرفي: مرتبط بالبُعد السابق، فالمجموعات أصبحت مصدرًا جديدًا من مصادر إنتاج القيم وتلقين المعارف (الايديولوجيا) وتشكيل الوعي بالقضايا المختلفة.
3. المستوى السلوكي: الذي يُعَدُّ أعمق هذه المستويات ولاحقًا لها.
تكمن المقاربة في الدراسة أنَّ «الأطر المرجعيَّة التي تُحدِّد ديناميَّة هذه الشبكات بوصفها وسيطًا ايديولوجيا، يُنْشِئُ السياقات (العوالم الافتراضيَّة) التي تجعل المستخدمين يحتكمون إلى الاهتمامات السائدة فيها، فتصبح هنا الوسيلة أو المنصَّة في ذاتها مُؤَدْلَجَةً، وليس المحتوى وحده، خلافًا لما دَرَجَتْ عليه الدراسات والنظريَّات الإعلاميَّة التقليديَّة التي تربط جوهر أو طبيعة الوسيلة بمضمون الرسالة الإعلاميَّة»[1].
من الصعوبة فكَّ الارتباط بين الثقافة والتقانة، إذ تقوم تكنولوجيا المعلومات الجديدة بتحطيم العقبات والعراقيل الزمنيَّة، والعلاقات الاجتماعيّة الهرميَّة والتصنيفات الطبقيَّة التقليديَّة، لأنَّ ثقافة الوسائط المتعدِّدة والشبكات تُشجِّع المستخدم على الذوبان والانصهار في عالم الرَّقْمَنَة… لذلك فالمجتمع في علاقته مع وسائط الاتّصال الجديدة لا يتم تشكيله وبناؤه وفق التأثيرات الوافدة عليه عبر هذه الوسائل فحسب، بل يذوب معها كليًّا.
فمُؤَسِّسو الشبكة سواء كانوا أفرادًا أو جماعات يتبنَّون أفكارًا معيَّنة، وتنشأ بناءً على هذه الأفكار الشبكة (نموذج شبكة الفيسبوك). وهذا لا يعني أن هناك حالة سكونيَّة في البناء الشبكيّ، إذ قد تتغيَّر الوُجهات الفكريّة لمؤسِّسي الشبكة تبعًا لتغيُّر الايديولوجيا المسيطرة على تفكيرهم، خاصَّة أن الايديولوجيَّات ليست حتميَّة.
هناك عِدة مُحدِّدات مختلفة تُبرز الطابع الايديولوجيَّ للشبكات الاجتماعيّة، ويأتي في مقدِّمتها:
1 – الايديولوجيا السياسية:
وما يدور حولها من أحداث، إذ احتضنت هذه الشبكات أشكالًا من المداولة والنقاش حول الشأن العام، وسمحت للنخب السياسيَّة بتجاوز آليَّات تغييبها من المجال العموميّ التقليديّ الذي تسيطر عليه الدولة.
2 – الشبكات الاجتماعيّة:
– لا تعمل بمعزل عن سياقها، أي: المجتمع الافتراضي. وإذا كانت الفرضيَّة الأساسيَّة للمجتمع الافتراضي منذ نشأته ترتكز على مشاركة الاهتمامات، فإنَّ الأفراد أو الجماعات عند النفاذ إلى الشبكات الاجتماعيّة يحتكمون إلى الاهتمامات، التي تُعدُّ بدورها مُحدِّدًا ايديولوجيًّا ينطوي على عنصر اختيار يَستمدُّ مرجعيَّته من الأطر الفكريّة الحاكمة للمستخدمين.
– الدخول إلى الشبكة والخروج منها تبعًا للتغيّرات التي تطرأ على معتقدات وأفكار المستخدمين، فالتفاعلات التي تتمّ في إطار الشبكات الاجتماعيّة تتحرَّر فيها الايديولوجيا من حواجز الزمان والمكان، ولكنهالم تستطع أن تنفكَّ عن أصولها الفكريّة التي تمنح الفرصة للنفاذ أو الخروج أو عدم الاشتراك.
– أفرزت الشبكات الاجتماعيّة أشكالًا جديدة من الفعل الجماعي، وخلقت فضاءاتٍ بديلة احتضَنت جماعات افتراضيَّة تكوَّنت حولها مشاغل مشتركة، سياسيَّة واجتماعيَّة وفنيَّة ورياضيَّة ومهنيَّة تنطلق من ايديولوجيَّات متعدِّدة.
– بروز قادة رأي عام جدد لهم منابرهم الإعلاميَّة وتقنيَّاتهم الخاصَّة لحشد الجماهير وتعبئة الأفراد.
تكشف الحروب الإلكترونية التي يشنُّها الأفراد، أو الجماعات، أو الدول، مُسْتَهْدِفَةً مواقع شبكات التواصل الاجتماعيّ، الطابع الايديولوجيّ لهذه الحروب، وتؤكِّد من جانب آخر الصراع حول المعاني والأفكار والتصوّرات والرؤى (صراع ايديولوجيَّ) التي تحملها المضامين الإعلاميَّة لتلك المواقع. فتكون بذلك الشبكات منصَّات لصراع ايديولوجيَّ فكريّ أو عقائديّ أو مذهبيّ أو سياسيّ أو صراع حول النفوذ والمصالح، بل تتحوَّل إلى وسائط حرب ايديولوجيَّة وفكريَّة بالموازاة مع الحرب التقليديَّة.
ويَرْسُمُ التدفُّق المعلوماتيّ بمصادره المختلفة، الذي يُشكِّل سَيْلًا مُنْهَمِرًا باتّجاه مستخدمي الشبكات الاجتماعيّة، طريقة التفكير أو ما يجب أن يُفَكِّر فيه المستخدم ويعرِّف عنه ويشعر به، وهو جوهر مضمون الإعلام الـمُؤَدْلَج.
وبجانب تلك المحدِّدات، تبرز أهميَّة ايديولوجيا المضامين الإعلاميَّة نفسها، أو ايديولوجيا الإعلام باعتبار الإعلام رسالة، والرسالة لابد أن تكون مُؤَطَّرَةً برؤية، وهي فكرة أو مجموعة أفكار تسبق السلوك الاتّصالي؛ مما يجعل الممارسة الإعلاميَّة نتاج رؤية اديولوجيَّة؛ وهي المحدِّدات التي تُؤثِّر في عمل القائم بالاتّصال.
* الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ، دراسة في استلاب الاستقلال الفكريّ والثقافيّ للناشطين والمستخدمين، مركز الحرب الناعمة
[1] أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، د.محمد الراجي،موقع الجزيرة، نُشر بتاريخ 27/12/2015.