منذ تأسيس معسكر العدو بشكل دولة إسرائيل، فنرى الإمام موسى الصدر يحذّر من هذا الخطر، ويدعو إلى مواطنة سليمة في مواجهة هذا الخطر بالإعداد لقوة الجنوب، وذلك من منطلق، وعلى قاعدة، أنه حيث يوجد الخطر، يوجد كل لبنان، وإلا انهارت منظومة نهائية الوطن،واستحال لبنان معها إلى مغامرة في التاريخ!
فها هو الإمام الصدر يخاطب شعب لبنان عبر نوابه يوم كان النوم مفخرة السياسة،والعجزُ سر القيامة!،فخاطبهم بتاريخ:الرابع من كانون الأول ١٩٦٩،قائلًا:”حضرة النائب الكريم،إن لبنان من دون جنوبه أسطورة،وإن لبنان مع جنوب ضعيف جسم مشلول،وإن لبنان من دون قوة الجنوب مغامرة تاريخية…”.
فالعجب ممن راقت له السياسةُ بظلام وجه تائه وبائس، وغرّته أماني العداوة،فاختار أن ينزع سلاحًا، وأن يُمزّق سياجًا،ليكون مغامرًا،أو خرافةً في التاريخ والجغرافيا!؟لقد غاب عن ذهن الكثيرين،من مَن اصطلمهم الجهل ببلية السياسة،وحلكة الظلامة،معنى أن يكون لبنان وطنًا نهائيًا على امتداد وجوده الثقافي وعلائقه الإنسانية والحضارية!
ولعل هناك من نسي،أو تناسى مقالة الإمام الصدر،”أن الأوطان ليست ترفًا فكريًا،ولا أنشودة فارغة من طعم الحق والحرية..”،وإنما هي شعورٌ بالانتماء،ومحاريب قدسية،تستأهل أن يكون لها مجد القوة في أزمنة الافتراس والقوى الوحشية!فالوطن ميثاق،وروح تشاركية،تُغنيه التعددية،وتُحييه التفاعلية،فجمال البستان في تنوّع وروده،ووحدة روحه،وعبق الشذى في نسائم وجوده،فلا بأس أن تتنوّع الطوائف ،لتُفتح النوافذ،وتبنى الأوطان!
فمن أراد أن يكون له معنى الوطن وحقيقته،فليدع جانبًا عصبية تمايزه،وفرادة عظمته،وليعطي من نفسه لنفسه روحية الانتماء في ما يتفاعل معه من ثقافة واجتماع،حتى يكون له من ذلك وحدة الموقف والرؤية والاتجاه.
إن نهائية الوطن تعني أن لا نرضى عنه بدلًا،وأن لا نبغي عنه حولاً،لأن تشارك الأشجار في جذورها، يعكس وحدة روحها،وأجواء الأنس بها في امتداد ظلها،وهي إن أثمرت كان منها اختلاف الطعوم،وطيب الشموم!فالوطن بما هو انتماء في الجغرافيا،وصدقية في الانتماء والالتزام،لا تضيره التعددية،وإنما هي تُغنيه،وتجعل له روحية الامتداد في تنوّعه الثقافي.فالنهائية في الوطن،كما يقول الإمام الصدر،لا تستحضر الطوائف إلا بما هي نوافذ حضارية،ومبادىء إنسانية،وكذلك الدين ،هو في مضمون النهائية للوطن،تأدية فروض الإجلال لمن صاغ هذه الحلّة اللبنانية،واختار لها أن تكون ظاهرةً بأبهى صورها الإنسانية،وهو الله تعالى،الذي أراد لهذا التنوع اللبناني أن يكون تجليًا لعظمة خلقه.
وهكذا،هو كل تنوّع في سمائه وأرضه، يحمل في ثنايا وجوده أسرار تكامله،وروح تفاعله.فأنى لمن تقسّم في وطنه،أن يكون متجليًا في وحدته،أو معبرًا عن معنى تنوّعه!ألا نرى إلى هذا الوجود كيف يتعدّد ويتنوع،ليكون متكاملًا في صيرورة وجوده؟،فمن أي خلق أنتم دعاة النزع والتقسيم،حتى لا تعتبروا بمنظومة خلق الله تعالى!؟
فإذا كان لبنان وطنًا نهائيًا لبنيه،فلتمتد البصائر على بساط الوجود،لتدرك معنى تجليات الروح في نعمة الطائفية في الكينونة اللبنانية.فالوطنية،بما هي انتماء،روح سارية،وحقيقة كامنة،والوعي بها يمنع المواطن من تجزئة نفسه،أو تغريب ذاته في وطنه.وعليه،فإن معنى نهائية الوطن،أن ينتمي اللبناني إلى كل وطنه،بحيث لا يتعصب لأصله،ولا يمتنع عن تكامل روحه في امتداد وجوده الإنساني،ليكون شريكًا متفاعلًا في عين كونه مخصوصًا بالدين،أو بالطائفة،فكل شيء يسرى في الوجود،فما معنى أن تكون لك السراية في خارج وطنك،أو مأخوذًا بعصبية روحك،لتنزع قوة نفسك من وجودك وحدودك،غير أن تكون قد انتظمت في سلك الأعداء،وارتقيت سلمًا في العداوة والبغضاء لمن هم أولى بالوطنية والانتماء!؟
هذه هي روح المواطنة التي رأى فيها الإمام الصدر كل لبنان،شرقًا وغربًا،شمالًا وجنوبًا،وأوصى بها الشعب اللبناني ومسؤوليه على امتداد طوائفه ومذاهبه وأحزابه وكل تنوعاته،محذرًا إياهم من الغفلة عن لبنان،قلبًا،وأطرافًا،ومبيّنًا لهم حقيقة ما يعنيه ضعف الجنوب وقوته، وانعكاسات كل منهما على الوطن كله!فإذا لم يتداع لبنان إلى ألم في حقيقة وجوده،وروح انتمائه ،فإنه لا يلبث أن يتقطّع عن أهله،ويزول عن أصله،ويؤول بالجميع إلى المغامرة في وجوده وحدوده !
وهنا نسأل،فما يكون معنى لبنان فيما لو انتهى بطوائفه إلى التشظي في همومه وآماله وأحزانه،غير أن يتفّلت من عقال الانتماء،ليكون اللبناني غريبًا في وطنه،وشريدًا على موائد اللئام بخديعة أعدائه،وأكذوبة النهائية في اختيار وطنه!؟
فالجنوب هو جرح لبنان،وروح الوطن،وحقيقة الانتماء،فإذا لم يتم التنبه لحقيقة المراد من نزع القوة،فلن يبقى للوطن معنى ،أو قيمة!فحقيقة الانتماء للوطن ،هي التي تعطي البعد الشمولي لحقيقة المواطنة.
وبما أن أعظم المخاطر التي تهدّد لبنان بدأت من جنوبه،”منذ تأسيس معسكر العدو بشكل دولة إسرائيل”،فنرى الإمام الصدر يحذّر من هذا الخطر،ويدعو إلى مواطنة سليمة في مواجهة هذا الخطر بالإعداد لقوة الجنوب،وذلك من منطلق،وعلى قاعدة،أنه حيث يوجد الخطر،يوجد كل لبنان،وإلا انهارت منظومة نهائية الوطن،واستحال لبنان معها إلى مغامرة في التاريخ!فالجنوب بقوة الوطن، والشعور بالانتماء،هو بوصلة الوجود والبقاء.وتبقى مقالة تسليم السلاح من أعاجيب الموت طوعًا لخدمة الأعداء،فضلًا عن ما تعنيه من أكاذيب في صدقية الانتماء.
بقلم أ.د.فرح موسى:رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية