الحضارة الإسلامية قائمةٌ على التوحيد وأبعاده الاجتماعية والفردية والروحانية، وعلى تكريم الإنسان من حيث إنسانيته – لا من حيث الجنس واللون واللغة والقومية والجغرافيا…
نقف في حديثنا عند هذا البعد من بيان السيد القائد، لأنه من أهم ما يمكن أن يقرّب بين أهداف الدراسات الدينية في العالم الإسلامي على اختلاف مذاهب هذه الدراسات.
جاء في هذا البيان : –
الإبداعات الحضارية ضمن إطار الرسالة العالمية للإسلام؛ هذا هو أبرز ما يُنتظر من الحوزة العلمية، وقد يُعدّ ذلك نسجًا من الآمال والأماني. ففي تلك الليلة التاريخية عقب الهجوم على [المدرسة] الفيضيّة عام 1342 هـ. ش. (1963 م)، حينما كان الإمام الراحل يخاطب جمعًا محدودًا من الطلبة المذعورين، في منزله بعد صلاة العشاء، ربما بدا لبعضنا أن تعبيره السامي : «هؤلاء سيرحلون وأنتم ستبقون»، لم يكن سوى نسجًا من الآمال والأماني، لكنّ مرور الزمن أثبت أن الإيمان والصبر والتوكّل يقتلع جبالًا من الموانع، وأنّ مكر الأعداء عاجز أمام السنن الإلهية.
إنّ «إرساء الحضارة الإسلاميّة» أسمى هدف دنيويّ للثورة الإسلاميّة، أي الحضارة التي يُسخّر فيها العلم والتقانة والموارد البشريّة والطبيعيّة وكلّ القدرات وأنواع التقدّم البشريّ والحكومة والسياسة والقوة العسكريّة وكل ما هو في متناول البشر، لخدمة العدالة الاجتماعيّة والرفاه العام وتقليص الفوارق الطبقية وتعزيز التربية الروحية والارتقاء العلمي والمعرفة المتزايدة بالطبيعة وترسيخ الإيمان.
الحضارة الإسلامية قائمةٌ على التوحيد وأبعاده الاجتماعية والفردية والروحانية، وعلى تكريم الإنسان من حيث إنسانيته – لا من حيث الجنس واللون واللغة والقومية والجغرافيا -، وتستند إلى العدالة وأبعادها ومصاديقها، وكذلك إلى حرية الإنسان في مختلف المجالات، كما إلى الجهاد العام في جميع الميادين التي تستدعي حضورًا جهاديًا.
تقع الحضارة الإسلامية على النقيض تمامًا من الحضارة المادية الراهنة؛ فالحضارة المادية بدأت منذ نشأتها بالاستعمار والاستيلاء على الأراضي وإذلال الشعوب الضعيفة، وبارتكاب المجازر الجماعية للسكان الأصليين، وباستغلال العلم لقمع الآخرين، وبالظلم والكذب وإحداث فجوات طبقية، وبالغطرسة، وتدريجيًا تسرّب إليها الفساد والانحراف عن الأسس الأخلاقية والصيانة الجنسية، اللذين ترعرعا فيها.
وها نحن نرى اليوم الأمثلة الواضحة والكاملة لهذا البناء الأعوج من أساسه في الدول الغربية وبين مَن سار على خطاها: قمم الثروة بجانب وديان الفقر والجوع، غطرسة المتيّمين بالسلطة على كل من يمكن قهره، توظيف العلم للقتل الجماعي، جر الفساد الجنسي إلى داخل الأسر وحتى الأطفال والصغار، ظلم وقسوة لا مثيل لهما في نماذج من قبيل غزّة وفلسطين، التهديد بالحرب من أجل التدخل في شؤون الآخرين، الذي يبرز في نماذج من قبيل سلوكيات رجال الدولة الأمريكيّين في الحقبات الأخيرة.
من البديهي أن هذه الحضارة الباطلة زائلة وستُزال؛ هذه سنة الخلق المحتومة: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء، 81)؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} (الرعد، 17). إنّ مسؤوليّتنا اليوم هي أولاً المساعدة في إبطال هذا الباطل، وثانيًا الإعداد للحضارة البديلة على المستويين النظري والعملي بقدر الاستطاعة؛ أما القول: «لم يستطع الآخرون، لذا لن نستطيع نحن أيضًا»، فهو مغالطة، فالآخرون حيثما تحركوا بإيمان واستقامة ووفقًا للحسابات، استطاعوا وانتصروا. والمثال الواضح والجلي أمام أعيننا: الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية.
تتخلّل هذا الكفاح أضرار وضربات وتجرّع آلام وأنواع الحرمان ينبغي تحمّلها؛ وعندئذٍ يكون النصر حتميًا. إن الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج ليلًا وخفيةً من مكّة ومن بين حلقة عبدة الأصنام، واختبأ في الغار، لكن بعد ثمانية أعوام وطأ بقدمه [أرض] مكّة بعظمة واقتدار، وطهّر الكعبة من الأوثان ومكّة من عبدة الأصنام. لقد تجرّع عناءً لا يحصى في هذه الأعوام الثمانية، وفقد أصحابًا مثل حمزة، لكنّه انتصر.
وفي دفاعنا المقدس الذي استمر ثماني سنوات في وجه التحالف العالمي للقوى الظالمة والكاذبة مثال آخر على ذلك. كما تُعدّ حوزة قم العظيمة والفاعلة اليوم، والتي واجهت المحن مع انطلاقتها، نموذجًا ماثلًا أمام أعيننا؛ ويمكن العثور على نماذج كثيرة مثل هذه.
تقع على عاتق الحوزة العلمية في هذا الجانب مسؤولية قيّمة، تتمثل أولاً في رسم الخطوط الرئيسة والفرعية للحضارة الإسلامية الجديدة، ثم في تبيينها وترويجها وترسيخ ثقافتها في المجتمع. وهذا من أسمى مصاديق «البلاغ المبين».
وفي ما يتعلق برسم معالم الحضارة الإسلامية، يضطلع الفقه بدورٍ، والعلوم العقلية بدور آخر. وعلى فلسفتنا الإسلامية أن ترسم امتدادًا اجتماعيًا لقضاياها الأساسية. كما يتعين على فقهنا، وعبر توسيع آفاقه والابتكار في الاستنباط، إحصاء المسائل المستجدة لمثل هذه الحضارة وتحديد أحكامها.
في ختام البيان قدم سماحته بعض التوصيات من أجل تقليص الفجوة بين الحوزة العلمية الحالية (مركز الدراسات الإسلامية الحرّة) والحوزة الرائدة جاء فيها :-
يجب الاهتمام بتربية الطاقات في المجالات كلّها. فمن يرسم مسار حركة هذا الشعب ومستقبل الثورة الإسلاميّة هم الطاقات الذين يتربّون اليوم في الحوزة العلميّة.
فليُعزّز الحوزويّون علاقتهم بالناس، وليجرِ التخطيط لحضور فضلاء الحوزة بين الناس وإرساء علاقات وديّة معهم.
يجب على مديري الحوزة، وعبر التدبير المناسب، أن يحبطوا المغالطات المغرضة التي تجعل الطلاب الحوزويّين الشباب محبطين تجاه المستقبل. يتمتّع الإسلام وإيران والتشيع اليوم بعزّة وحرمة على مستوى العالم لم يسبق أن كان لهما مثيل في الماضي. على الطالب الحوزوي الشاب أن يدرس ويتنامى وهو يمتلك هذا الشعور.
ينبغي أن يُنظر إلى جيل الشباب في المجتمع بعين التفاؤل، وأن يجري التعامل معهم من هذا المنظور. إنّ فئة واسعة من شباب اليوم، الذين يمتلكون معدّل ذكاء مرتفع، أوفياء للدين ومدافعون عنه، بالرغم من كلّ المغالطات الهدّامة للفكر والإحساس الدينيّ؛ وثمة كثيرون آخرون أيضًا ليس لهم أيّ معاندة مع الدين والثورة الإسلاميّة. يجب ألّا تؤدي الأقليّة الضئيلة جدًّا المُعرضة عن المظاهر الدينيّة إلى وقوع الحوزة في التحليلات غير الواقعيّة.
يجب أن تُصاغ المناهج الدراسية في الحوزة بنحو يُدرَّسُ فيه الفقه النيّر والمُجيب والمواكب للعصر، والمبني طبعًا على المنهج الاجتهادي، إلى جانب الفلسفة الواضحة ذات الامتداد الاجتماعي والرؤية المؤثرة في هيئة الحياة المجتمعية، ومعها علم الكلام البليغ والمتين والقادر على الإقناع، وذلك على يد أساتذة ماهرين، وتكسب هذه الثلاثية كشفًا ونورانية وعمقًا في ظلّ فهم القرآن ودروس التفسير.
لطالما كان الزُّهد والتقوى والقناعة والاستغناء عن غير الله، والتوكّل، وروحيّة التقدّم، والاستعداد للجهاد، من توصيات الإمام الجليل وأبرز الشخصيات الأخلاقيّة والمعرفيّة إلى الطلاب الحوزويّين الشباب، والآن أنتم أيها الشباب الأعزّاء في الحوزة العلميّة مخاطبون بهذه التوصيات ذاتها».