الحياة الدنيا حين تُقاس بمقاييسها هي تبدو أمراً عظيماً هائلاً، ولكنها حين تُقاس بمقاييس الوجود، وتوزَن بميزان الآخرة تبدو شيئاً زهيداً تافهاً.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ بَلَغَ غايَةَ ما يُحِبُّ فَلْيَتَوَقَّعْ غايَةَ ما يَكْرَهُ”.
إذا اخضرت الأوراق فتوقع اصفرارها بعد حين، وإذا أشرقت الشمس فتأكد أنها ستغيب، وإذا غربت فتأكد أنها ستشرق من جديد، وإذا ربحت فتوقع أن تخسر، وإذا خسرت فتوقع أن تربح، وإذا تعافيت فتوقع أن تمرض، وإذا مرضت فتوقع أن تتعافى، وإذا قويت فتوقع أن تضعف، وإذا ضعفت فتوقع أن تقوى.
تكثر الأمثلة قارئي الكريم، حتى لأعجز عن ذكرها لك، وجميعها تفيد أن لا شيء يدوم، إذ لا يدوم إلا الله تعالى، فكل ما في الدنيا يفنى، ويبقى الله وحده، لأنه واجب الوجود، وما سواه مُمْكِن الوجود، يوجِده الله الخالق القادر، هو الذي يعطيه ويبسط له، وهو الذي يمنع ويقبض عنه.
هذه المعادلة العلوية الكريمة توجِّه أنظارنا إلى جوهر الحياة الدنيا التي يصفها الله تعالى بأنها مَتاع، والمَتاع من شأنه أن يزول ويفنى، فلا الدنيا بدائمة، ولا ما فيها بدائم، ولا ما يناله الخلق فيها بدائم، إن أعطتك أعطتك القليل، وهو قليل لا يدوم، وإن أعطتك كثيراً أخذت منك كثيراً، لا تأتي فيها نعمة إلا بفراق أخرى، كل ما فيها يعقبه الزوال والفُقدان، ومعه، فعليك أن تتوقع دائماً أن يتغيَّر الحال معك.
إن ارتكازك على هذا الفهم للدنيا، واعتمادك هذه الآلية في التعامل مع ما يجيئك ويذهب عنك فيها هو القاعدة الأهم والأسلوب الأمثل للنجاح في عالم متغيِّر شئت أم أبيت، وأنت لا تملك حياله إلا التسليم والتعامل الذكي مع أحداثه ومتغيّراته، فالفرق كبير، كبير جداً، بين أن تعتقد أن ما في يديك دائم باقٍ، وبين أن تعتقد أن ما في يديك زائل في لحظة لا تعلمها، الاعتقاد الأول يجعلك دائماً عُرضة لمفاجآت لم تتوقعها ولم تتحسَّب لها، تأتيك فتبغتك وقد لا تُحسِن التعامل معها، أما الاعتقاد الثاني فيحميك من البطر والاستعلاء والخُيَلاء حال النعمة، ويدفع عنك اليأس والقنوط حين تفقدها، ويعطيك القدرة على التعامل الواعي مع ما يطرأ من أحداث ومتغيرات.
“مَنْ بَلَغَ غايَةَ ما يُحِبُّ فَلْيَتَوَقَّعْ غايَةَ ما يَكْرَهُ” إذا وصلتَ إلى أقصى درجات تمتّعك بما تحبّه، فهذا يعني أنّ النعمة بلغت منتهاها، إذا فرِحتَ ببلوغ هذه الغاية، فلا بُدَّ من أن تتوقَّع فُقدانها يوماً ما.
يقول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿الحديد:20﴾ الحياة الدنيا كلها عرض زائل، وسراب باطل، لا يخلو من الخصال الخمس التي ذكرتها الآية الكريمة، اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر في الأموال والأولاد، وهي التي يتعلّق هوى النفس الإنسانية ببعضها أو بجميعها، وهي أمور وهمية، وأعراض زائلة لا تبقى للإنسان، ولا واحدة فيها تجلب له الكمال الحقيقي، وهي مترتبة بحسب سني عمر الإنسان ومراحل حياته، إننا نراه يتولَّع أولاً باللَّعب وهو طفل أو مراهق، ثمَّ إذا بلغ واشتَدَّ عظمه تعلَّق باللهو والملاهي، ثُمَّ إذا بلغ أشُدَّه اهتمّ بالزينة من الملابس الفاخرة، والعلامات التجارية الراقية، والسيارات الفاخرة، والمنازل الفخمة، ثُمَّ إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب والأنساب، ثُمَّ إذا شاب سعى في تكثير المال والولد.
الحياة الدنيا حين تُقاس بمقاييسها هي تبدو أمراً عظيماً هائلاً، ولكنها حين تُقاس بمقاييس الوجود، وتوزَن بميزان الآخرة تبدو شيئاً زهيداً تافهاً، والآية الكريمة تكشف تلك الحقيقة العظيمة، تكشف أن الحياة الدنيا لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة، حيث المصير الذي يصنعه الإنسان لنفسه بجِدِّه وكَدِّه في الحياة الدنيا.
مثل الحياة الدنيا في بهجتها المعجبة ثم الزوال كمثل مطر أعجب الحُرّاث نباته الحاصل بسببه، ثم يتحرك إلى غاية ما يمكنه من النمو فتراه مصفرَّ اللون، ثم يكون هشيماً متكسراً، حُطاماً متلاشياً تذروه الرياح.
نستنتج مِمّا سبق: ضرورة أن يتوازن الإنسان في توقعاته، فكما يتوقع غروب الشمس بعد شروقها، يتوقع الخسارة بعد الربح، والفقر بعد الغنى، والمرض بعد السلامة، وتوقع العكس صحيح كذلك، فكلاهما مُهمّان يحفظان توازن الإنسان، ويدعوانه إلى اللاستعداد الدائم للمتغيرات.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي