فلسفة الموت عند الإمام الحسين (ع)

فلسفة الموت عند الإمام الحسين (ع)

سأل رجل الإمام الحسن (ع) فقال له: ما بالنا نكره الموت ولا نُحِبُّه؟ فقال الإمام (ع): “لِأنّكُم أخرَبتُم آخِرَتَكُم، وعَمّرتُم دُنياكُم، وأنتُم تَكرَهونَ النُّقلَةَ مِن العُمرانِ إلَى الخَرابِ”.

“اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ”

“واللهِ إِنّي لَمُسْتَبْشِرٌ بِما نَحْنُ لاقُونَ”

هذا ما أجاب به الصحابي الجليل، والبطل العظيم بُرَيرُ بن خضير، عبد الرحمان بن عبد ربِّه، حين أمر الامام الحسين (ع) أصحابه أن يتنظفوا ويتعطَّروا استعدادا للقاء الله تعالى، وسبقهم هو إلى ذلك فتطلَّى بالنَّورة والمِسك، فازدحم عبد الرحمان وبُرير على باب الفُسطاط كل منهما يريد أن يطَّلي على إثر الحسين (ع)، فجعل بُرَيرٌ يُهازِل عبد الرحمان ويمازحه، فقال له عبد الرحمان: دعنا، فَوَاللهِ ما هذه بساعة باطل.

فقال له بُرَيرٌ: وَاللّهِ، لَقَد عَلِمَ قَومي أنّي ما أحبَبتُ الباطِلَ شابّاً ولا كَهلاً، ولكِنْ -وَاللّهِ- إنّي لَمُستَبشِرٌ بِما نَحنُ لاقونَ، وَاللّهِ، إن بَینَنا وبَینَ الحورِ العينِ إلّا أن يَميلَ هؤُلاءِ عَلَینا بِأَسيافِهِم، ولَوَدِدتُ أنَّهُم قَد مالوا عَلَینا بِأَسيافِهِم.
ما أروع بريراً، وما أنبل موقفه، وهو يَعْبُر تلك اللحظة المصيرية، فما بقي له من عمره إلا سويعات يعيشها في هذه الدنيا، وعمّا قريب سيرتحل هو وصحبه يتقدّمهم إمامهم الحسين (ع) إلى الآخرة، إلى لقاء الله تعالى.
الناس في الأعم الأغلب يستبدُّ بهم الخوف مِمّا هم قادمون عليه، من ارتحال عن هذه الدنيا، لكن بريراً وأشباهه في قمة السعادة والاستبشار، هو ذا ينتظر ذلك اللقاء بسرور وغِبطة، بل نراه يستعجله استعجال العطشان إلى الماء، يعلم أنه منتقلٌ من عالم أدنى إلى عالم أعلى، ومن حياة دانية مشحونة بالمتاعب إلى حياة سامية مشحونة بالهناء والراحة والطمأنينة.

إن الناس بالنسبة إلى الموت صنفان:

صنف: يخاف من الموت، وترتعد فراصه بمجرد أن يذكره، وإنه ليجهد في الفَرار منه بكل وسيلة ممكنة، فيعيش حياته كلها قَلِقاً مرعوباً، فيقتله الموت قبل أن يحلَّ بساحته، والسبب الرئيس لخوفه من الموت، جهله بالموت، وشدَّة تعلُّقه بالدنيا، وعدم عمارته للآخرة، هذا ما ذكرت الروايات الشريفة، فقد سأل رجلٌ رسولَ الله (ص) فقال له: ما لي لا أُحِبُّ الموت؟ فسأله رسول الله (ص): “هَل لكَ مالٌ؟ فقَدِّمْ مالَكَ بينَ يدَيكَ، فإنّ المَرءَ مَع مالهِ، إن قَدّمَهُ أحَبَّ أن يَلحَقَهُ، وإن خَلّفَهُ أحَبَّ أن يَتخَلّفَ مَعهُ”.
وسأل رجل الإمام الحسن (ع) فقال له: ما بالنا نكره الموت ولا نُحِبُّه؟ فقال الإمام (ع): “لِأنّكُم أخرَبتُم آخِرَتَكُم، وعَمّرتُم دُنياكُم، وأنتُم تَكرَهونَ النُّقلَةَ مِن العُمرانِ إلَى الخَرابِ”.
وقيل للإمام محمد بن علي الجواد (ع): ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ فقال: لأنّهُم جَهِلوهُ فكَرِهوهُ، ولو عَرَفوهُ وكانوا مِن أولياءِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ لأحَبُّوهُ، ولَعَلِموا أنّ الآخِرَةَ خَيرٌ لَهُم مِن الدّنيا”
وهذا الصنف لا يمكنه الفرار من الموت مهما فعل، ولا النجاة منه ولو كان كل أهل الأرض يعملون في حمايته، أو كان في بُروج مُشيَّدة.

رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: “لَوْ أنّ أحَداً يَجِدُ إلَى البَقاءِ سُلَّماً، أو لِدَفعِ المَوتِ سَبيلاً، لَكانَ ذلكَ سُلَيمانَ بنَ داودَ (ع)، الّذي سُخِّرَ لَهُ مُلكُ الجِنِّ والإنسِ، مَع النُّبُوَّةِ وعَظيمِ الزُّلفَةِ، فلَمّا استَوفى‏ طُعْمَتَهُ، واستَكمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتهُ قِسِيُّ الفَناءِ بنِبالِ المَوتِ، وأصبَحَتِ الدِّيارُ مِنهُ خالِيَة، والمَساكِنُ مُعَطَّلَةً، ووَرِثَها قَومٌ آخَرونَ”.

وصِنف: لا يطلبون الموت، ولا يتمنَّونه من يأسٍ وتعبٍ، ولكنهم لا يرهبونه، هؤلاء يحبون الحياة، ويعيشونها بأرقى معانيها، وإنهم ليبنونها ويُعمِرونها، ويستفيدون من ثرواتها وزينتها، ولكنهم يستثمرونها فيما يرجع عليهم بالخير في الدنيا وفي الآخرة، ويستثمرون أعمارهم فيما يفيدهم هنا وهناك، يعلمون أنهم مرتحلون يوماً ما عن هذه الدنيا إلى الآخرة يوم يجيء أجلهم، فإذا جاءهم الموت استبشروا به، لأنه كالقنطرة التي تعبر بهم عن البؤس والضرَّاء إلى الجنان الواسعة، والنعيم الدائمة.

إن بريراً وصحبه ليستبشرون بما سيواجههم، إنهم لا يهابون ما تحمل إليهم الساعات القادمة، ولا يخافون من أن ينال عدوهم منهم نَيلاً، يؤدُّون تكليفهم الإلهي بعزم واقتدار، ويمضون على طريق الحق لا يعبؤون بما يترتب على ذلك من كُلفة، ويرون القتل في الله باباً إلى الخلود في جوار الله، وحياة دائمة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل