إن الإسلام لا يدعو إلى الانعزال التامّ ولا إلى الانغماس الكامل في المجتمع، بل يدعو إلى الاعتدال في ذلك، والمؤمن هو الذي يوازن بين حاجته إلى العُزلة للانفراد بنفسه وبربه، وبين واجبه تجاه أمته ومجتمعه.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنِ انْفَرَدَ عَنِ النّاسِ أَنِسَ بِاللّهِ”.
معادلة تقوم على الربط بين الانفراد عن الناس والأنس بالله تعالى، وهي تشير إلى أن من اختار العزلة عن الناس، وابتعد عن صخبهم، يجد في الله أنساً وسكينة لا يجدها معهم.
لا شكَّ قارئي الكريم أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يصعب عليه العيش بمعزل عن الآخرين لفترات طويلة دون أن يؤثر ذلك على نفسيته وسلوك، لكن انخراطه الدائم مع الناس قد يجلب إليه الكثير من المشاكل والخصومات، وقد ينال من أخلاقه والتزامه الديني إن كان بهما ضعف، فيحتاج إلى الانفراد عن الناس ليأمن عليهما من جهة، وليعيد ترميم ما تهشَّم منهما.
والعُزلة هذه تعني الابتعاد عن الناس وانفراد الانسان بنفسه وربِّه، وهي قد تكون عُزلة بدنية كالسكن بعيداً عنهم، كما كان رسول الله (ص) ينفرد بنفسه وربه في غار حِراء، أو كما حصل مع فتية أهل الكهف الذين اعتزلوا الناس وانفردوا بأنفسهم في كهفهم، وقد تكون عُزلة عقائدية فكرية معنوية نفسية، كقول الله تعالى حاكياً ما قاله النبي إبراهيم (ع): وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴿مريم:48﴾.
إن الانفراد عن الناس بالمعنى المتقدم يحفظ دين الإنسان وأخلاقه وسلامته العقلية والفكرية والمعنوية والروحية، يحفظه من التأثُّر بالأفكار الضالَّة، والقيم الفاسدة، والأعراف المنحرفة، ويحفظه من أذاهم، ويفرِّغه للتفكر والتدبُّر بعيداً عن المُؤثِّرات الاجتماعية، كما يفرِّغه للعبادة والأُنس بالله تعالى.
ولذلك لم يغفل الإسلام حاجة الإنسان أحيانًا إلى العُزلة، وبيّن متى تكون محمودة، ومتى تكون مذمومة:
تكون العُزلة حَسَنَة: في أزمنة الفِتَنِ والفساد وشيوع الباطل والمنكر، فإذا كان الإنسان ضعيف الفكر، أو ضعيف النفس، أو عاجزاً عن الثبات أمام المغريات والشهوات، أو عاجزاً عن التأثُّر بالمنكر وخشي أن يتسرب إليه شيء منه، أو عاجزاً عن التأثُّر بالفتن الاجتماعية والسياسية ولا يملك القدرة على مقارعة الباطل والفساد، وقد رُوِيَ عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “إن قَدَرتَ أن لا تَخرُجَ مِن بَيتِكَ فَافعَلْ، فإنَّ عَلَيكَ في خُروجِكَ أن لا تَغتابَ، ولا تَكذِبَ، ولا تَحسُدَ، ولا تُرائيَ، ولا تَتَصَنَّعَ، ولا تُداهِنَ”.
وتكون العُزلة مذمومة: إذا أدّت إلى ترك الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان قادراً عليهما، أو كانت العزلة هروباً من المسؤوليات الاجتماعية والدينية، أو من عدم اهتمام بأمور المسلمين والمستضعفين، أو بسبب اليأس، أو الانطواء على النفس، أو سيطرة الشك والوهم عليه.
والإسلام لا يدعو إلى الانعزال التامّ ولا إلى الانغماس الكامل في المجتمع، بل يدعو إلى الاعتدال في ذلك، والمؤمن هو الذي يوازن بين حاجته إلى العُزلة للانفراد بنفسه وبربه، وبين واجبه تجاه أمته ومجتمعه.
والذي يعتزل الناس لأسباب وجيهة، ومنها الخَلْوَة للعبادة والتقرُّب إلى الله، يؤنسه الله، ويجد في أُنسه من السرور والغِبطة والطمأنينة، ما لا يجده مع الناس ومخالطتهم.
والأنس بالله من أعلى المقامات الروحية التي يسعى إليها المؤمن، إنه يعني أن يكون العبد في حالة من القرب والمناجاة والطمأنينة في حضرة الله، لا يشعر معها بالحاجة إلى الخلق، فالانفراد بالله يفتح للعبد أبواب الفهم، والتجليات المعنوية، والسكينة، والطمأنينة، وصفاء الذهن، وتقدير النفس، ومن يفُز بالأنس بالله، يستغني، ويسعد، ويطمئن، ويصلُح بالُه، وهذه الحالة لا تتحقق إلا لمن طهُرَ قلبه وامتلأ بمحبة الله وخشيته، وتخلَّص من علائق الدنيا.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي