مَنِ اسْتَهْدَى الْغاوِيَ عَمِيَ عَنْ نَهَجِ الْهُدى

مَنِ اسْتَهْدَى الْغاوِيَ عَمِيَ عَنْ نَهَجِ الْهُدى

إن الإمام أمير المؤمنين (ع) يقول: من طلب الهداية من الضّال، فعاقبته العمى عن الطريق القويم، لأن طالب الهدى يسير خلف من يُرشده، فإذا كان المُرشد أعمى، فكيف يدلّه على الطريق؟ وإذا كان تائهاً ضائعاً، فكيف يُهتَدى به؟

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنِ اسْتَهْدَى الْغاوِيَ عَمِيَ عَنْ نَهَجِ الْهُدى”.

فطر الله الإنسان على طلب الهداية إلى الحق، والسرور بالفوز به، لما لذلك من تأثير على الاستقرار العقدي والفكري والنفسي للإنسان، إذ لا تستقيم حياته ولا تستقر إلا بذلك، فالحق هو ما يجب أن يكون، والباطل هو الذي لا يجوز أن يكون.

غير أن من الناس من يوفَّق للاهتداء إليه ومنهم من يخفِق، أو يحسب أنه قد هُدِي إليه ولكنه في واقع الأمر ضالٌ عنه، والسبب في ذلك أمران:

أولهما: أن يعطِّل عقله، وينساق مع البيئة التي يحيا فيها، دون أن يفكر في صحة ما تتبناه من عقائد وتصوّرات وقيم، أو يتلقى ذلك كموروث مقدَّسٍ من الآباء والأجداد يخشى أن يتبنّى سواه، بل يخشى حتى أن يخضعه للنقد والتمحيص، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴿البقرة:170﴾.

الثاني: أن يطلب الهداية من غير أهلها، يطلبها مِمّن يحتاج هو إلى من يهديه ويرشده إلى الحق والحقيقة، وهو الغاوي الذي انحرف عن سواء السبيل، إما عن جهل، أو عن هوى.

فالإنسان بهذا وذاك، يضِلُّ، ويعمى عن نهج الهدى الصحيح، ونهج الهدى واحد لا يتعدد، لأن الحقيقة واحدة لا تتعدد، إذ يستحيل أن يكون النقيضان صحيحان في آن معاً، لا يمكن أن تكون الورقة بيضاء وفي نفس الوقت سوداء، كما لا يمكن أن أن يكون الشخص واقفاً وفي نفس الوقت قاعداً.

وعليه، فإن الإمام أمير المؤمنين (ع) يقول: من طلب الهداية من الضّال، فعاقبته العمى عن الطريق القويم، لأن طالب الهدى يسير خلف من يُرشده، فإذا كان المُرشد أعمى، فكيف يدلّه على الطريق؟ وإذا كان تائهاً ضائعاً، فكيف يُهتَدى به؟

هنا تتجلّى مسألة التمييز بين يُطلب منه الهدى، ومن لا يُطلب منه، وهي مسألة مركزية في العقيدة الإسلامية، وقد بيّنها القرآن الكريم بقوله: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿35﴾ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿يونس:36﴾. فالهداية لا تُؤخَذ إلا من أهلها، وأهلها هم الهُداة الحقيقيون القادرون على الهداية والإرشاد، أما الذين هم أنفسهم بحاجة إلى الهداية، وبحاجة إلى الهادي فكيف تُؤخَذ الهداية منهم؟! ولذلك عقَّب الله تعالى بالآية التالية فقال: “وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا” لأن معظم الناس يتلقّون الهداية من غير أهلها، فيحسبون أنهم على الهدى والحق، ولكنهم في واقع الحال ليسوا كذلك لأنهم يتبعون الظنون لا الحقائق.

الهداية لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مأخوذة من مصدر موثوق، راسخ في العلم، عامل بالحق، بريء من الهوى، فمن طلب الهداية من غير أهلها، أي طلبها مِمّن يحتاج إلى الهداية ” عَمِيَ عَنْ نَهَجِ الْهُدى” وهذه إشارة بليغة إلى فقدان المرء حينئذ القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين الصحيح والسقيم، ودخوله في ظلمة تتراكم مع الأيام، إذا أخرج يده لم يكد يراها، فيفقد نور البصيرة، ويغدو تابعاً لذلك الضّالّ الغاوي لا يعرف وجهته الحقيقة، كالسائر في متاهة لا يعرف لها مخرجاً.

وما أحوجنا اليوم إلى اختيار الهادي الصحيح، وإلى طلب الهداية من أهلها، فإننا في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، والصحيح بالخطأ، وكثرت الفتن، وكثر أدعياء العلم، وكثرت الآراء، فلا يجوز أن يتلقّى المرء عقيدته أو تصوراته من كل مُدَّعٍ، وليس المهم أن يبحث عن الحقيقة، بل الأهم أن يطلبها من أهلها، فالهداية ليست أمراً يُشترى ويباع ويُستبدل كل حين، بل هي طريق تبتني عليه عقيدة الإنسان وسلوكه، وتبتني عليه دنياه وآخرته، فإن أخطأ في أول الطريق، أو اتبع من ليس أهلاً للهداية، انحرف وضَلَّ دون رجعة.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل