متى رأيتم في تاريخ العالم، أنّ بلداً يمتلك جميع أهاليه مشاعر وإحساسات دينيّة، يسمحون لأعداء الدّين إلى حدّ، أن يأتوا إلى مسجد النبيّ، أو إلى مكّة، ويتحدّثوا ويبرزوا عقائدهم كيفما يشاؤون، ينكرون الله وينكرون نبوّة النبيّ ويردّون على الصلاة والحجّ و…، ويقولون إنّهم لا يقبلونها، وفي الوقت نفسه يقابلهم المؤمنون المتديّنون بكلِّ ترحاب واحترام.
نرى نماذج مشرقة كثيرةً من هذا في تاريخ الإسلام، وبمثل هذه الحريّات تمكّن الإسلام من البقاء، فإذا كانوا في بداية الإسلام يردُّون على من يأتي ويُنكر وجود الله، بالضّرب والقتل، فإنّ الإسلام لم يكن ليَبقى حتى اليوم، لقد بقي الإسلام إلى اليوم، وذلك لأنّه قابلَ الأفكار بكلِّ شجاعةٍ وصراحة.
لقد سمعتم جميعاً قصّة رجلٍ يُدعى “مفضَّل”. كان مفضَّل هذا، من أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، كان يُصلّي يوماً في مسجد النبي، وفي أثناء الصلاة دخل رجلان ماديَّان (أي منكران لوجود الخالق)، وجلسا قريباً منه، وشرعا يتكلّمان بصوتٍ عالٍ بحيث كان يسمعهما.
وفي ضمن حديثهما جرى البحث حول النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، فادّعيا أنّه كان رجلاً عبقرياً، وأراد أن يخلق تحوّلاً وثورةً في المجتمع، فرأى أنّ أحسن السّبل معتقداً بالله واليوم الآخر.
فبدأ “مفضَّل” يهاجمهما، في لهجة قاسية، فقالا له: قُلْ لنا: من أيّ الفرق أنت؟ ومَنْ هو إمامك؟ فإنْ كنت من أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، فعليك أن تعلم بأنّنا نتحدّث بهذه الأحاديث في مجلسه، بل ونعرض أحاديث بأقسى ممّا سمعت، ولكنه لم يغضب أبداً، بل يسمع أقوالنا بكلِّ وقارٍ وطُمأنينة، ويردّ في النهاية على جميع أقوالنا، بالدلائل والبراهين، ويصحّح أخطاءنا.
بهذا استطاع الإسلام أن يبقى ويدوم، تُرى مَنْ الذي نقل وعرض أقوال واعتراضات الماديّين وحافظ عليها؟ وعلى مدى التاريخ الإسلامي؟ هل الماديّون أنفسهم؟ لا، اذهبوا وطالعوا لتروا، أنّ علماء الدّين هم الذين حافظوا على اعتراضات الماديّين؛ أي إنّهم عندما كانوا يعرضون أسئلتهم على علماء الدّين، ويقوم العلماء بالبحث معهم، فإنّ العلماء سجّلوا هذه المباحثات في كتبهم، وبقيت هذه الاعتراضات إلى زماننا هذا، بسبب ورودها في كتب علماء الدّين؛ وإلّا، فإنّ أكثر آثارهم قد اضمحلّت، أو أنّها ليست في متناول اليد.
انظروا على سبيل المثال إلى كتاب “الاحتجاج” للطبرسي [1] أو كتاب “بحار الأنوار”[2]، لكي تروا مقدار ما عرضاه من اعتراضات وادِّعاءات هذه الفئة.
وفي المستقبل أيضاً، يستطيع الإسلام فقط، عن طريق المواجهة الصريحة، والوقوف بشجاعة أمام العقائد والأفكار المختلفة، من الاستمرار في حياته.
إنّني أُحذّر الشباب المعتقدين بالإسلام، أن لا يتصوّروا بأنّ طريق المحافظة على المعتقدات الإسلامية، هو بمنع الآخرين من إبراز عقائدهم.
لا نستطيع حراسة الإسلام، إلّا عن طريق قوة واحدة فقط، ألا وهي قوّة العلم وإعطاء الحريّة للأفكار المخالفة، ومِن ثمّ مواجهتها مواجهةً صريحةً واضحة، لقد كان لثورتنا دوياً عظيماً في العالم.
يُقال في العالم اليوم: إنّ التظاهرات التي تقع هذه الأيّام في إيران[3] لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
يا إخواني؛ إنّني أتساءل: ما هي القوّة التي تتمكّن من تحريك وإثارة 30 مليوناً على الأقلّ من شعب عدده 35 مليون نسمة؟ إنّ الذين قرؤوا تاريخ الثورات في العالم، يعرفون أنّه لم تصِلْ أية ثورة إلى ما وصلت إليه ثورة إيران، من حيث السعة والشمول.
لاحظوا إخواننا الطيّارين على سبيل المثال، ربّما كان قليل هم الذين يتصوّرون مدى قُدرة، وقوّة الأحاسيس والعقائد الدينية، المتفشيّة في صميم وأرواح هذه الطبقة.
إنّهم – وسط دهشة الجميع – يُضربون عن العمل، بإيمانٍ وإخلاص، ولم يخضعوا لأيّة قدرة ولا يُرعبهم أيَّ تهديد. ولكن عندما يأتي الإعلان عن قدوم الإمام، يتطوعون لقيادة طائرته.
تخالفهم السلطة وتهدّدهم – كما نقلوا لي بأنفسهم – وتحذِّرهم من مغبةِ إقدامهم على مثل هذا العمل، مع أنّهم لا يملكون وظيفة ولا منصباً (بعد أنْ أضربوا عن العمل)، بل وتهديدهم بأنّهم إذا قادوا الطائرة، فإنّ الحكومة سوف تقصفهم بالصواريخ وتقضي عليهم.
غير أنّهم يُجيبون: بالرّغم من كلِّ ذلك، فإنّنا عازمون على الحركة، واعملوا ما شئتم، عند ذاك تضطرّ السلطة إلى التراجع، وتسمح بفتح خطٍ واحدٍ من بين جميع الخطوط الجويّة، فيُسمّيه الطيارون: خطّ الثورة، ويا له من اسمٍ بديع!
أين هم أولئك الذين يقولون: إنّ الدّين يخصّ كبار السن، والعجائز وأهالي الجنوب[4]؟ ألم يُشارك بهذه الثورة، القرويُّ والحضريُّ، العامل والفلاح، الطالب والأستاذ، المحامي والموظّف؟ فما هي القوّة التي تستطيع أن تخلُقَ ثورةً كهذه، غير قوّة العقيدة، وبالأحرى عقيدة مثل الإسلام؟
إنّ هذا الأمل يحيا في قلبي تدريجياً: وهو أنّ الثورة لن تنحصر في إيران، وأنّها سوف تحتضن سبعمائة مليون مسلماً، وسوف يكون الفخر لإيران، حيث أنّ الثورة الإسلامية بدأت منها لِتعمّ كافّة البلاد الإسلامية، ولا شك في ذلك.
أخبروني قبل بضعة أيّام أنّ (كارتر) حذَّر الإمام الخميني(قدس سره): من أنّ القوّتين العظميين توافقان على حكومة “بختيار”15؛ وعليه أن يعرف ذلك، ولكن هذا الرجل العظيم لم يهتم بهذا التهديد أبداً.
أنا الذي درست وتتلمذت في محضر هذا الرجل العظيم، قرابة اثني عشر عاماً، فإنّني خلال سفري الأخير إلى “باريس” وزيارتي له، أدركت من روحيّته أشياء، لم تُزد من إعجابي فحسب، بل زادت من إيماني به أيضاً.
عندما رجعت سألني أصدقائي ماذا شاهدت؟ أجبتهم لمست فيه الإيمان بأربعة:
1.إيمانه بهدفه: إنّه يؤمن بهدفه، بحيث لو اجتمع العالم، ما استطاع أنْ يصرفه عنه.
2. إيمانه بسبيله: إنّه يؤمن بالطريق الذي اختاره، ولا يمكن لإنسان أن يحيده عن سبيله، ومثلما كان النبيّ يؤمن بهدفه وبطريقه فإنّه كذلك.
3. إيمانه بشعبه: لم أرَ أحداً قطُّ مثله، من بين جميع أصحابي وأصدقائي، مَنْ يؤمن بمعنوية الشعب الإيراني، ينصحونه أنْ يخفّف قليلاً من مواقفه، قائلين إنّ الشعب بدأ يتراجع تدريجياً، وإنّ معنوياته محطّمة، ولكنه يقول: لا، ليس الشعب “الإيراني” كما تقولون، إنّني أعرفه أحسن منكم، وها نحن نرى جميعاً صدق كلامه يتّضح يوماً بعد يوم.
4. وأهم من ذلك كلّه إيمانه بربّه: كان يقول لي في جلسةٍ: لا تتصوّر أنّنا نحن الذين نعمل هكذا (نقوم بالثورة)، إنّني أرى وألمس يدّ الله بوضوح، إنّ الذي يشعر بقوّة الله وعنايته ويسير في سبيل الله، فإنّ الله يُضيف إلى قوّته النصر، تصديقاً لقوله تعالى: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[5]، وتصديقاً لما يتحدّث به القرآن عن أصحاب الكهف، إذ يقول تعالى: ﴿ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[6]، إنّهم قاموا لله، والله يربط على قلوبهم، ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[7]
إنّني أرى هذه الهداية والتأييد (الإلهيين) بوضوح في هذا الرجل، إنّه قام لله، فمنحه الله تعالى قلباً قوّياً، حيث لا يأتيه الخوف، ولا يتزعزع أبداً.
إنّ الأطبّاء الفرنسيّين، الذين فحصوا – أخيراً – هذا الشيخ، وقد تعرّض خمسة عشر عاماً – على الأقل – للحرب النفسيّة، والتأثُّرات الروحية، وفقد أخيراً ذلك الشابّ الصالح[8]؛ إنّهم، يعتقدون: بأنّ الإمام يمتلك قلباً، كقلب شابّ عمره عشرون سنة، إنّه الذي يسير في سبيل الله، وقد رأى بالتجربة ما وَعَدَنا القرآن[9].
لقد وعد القرآن أنّكم إذا قمتم لله وعملتم من أجل الله، فإنّكم ترون وقتئذٍ عناية الله. تحرَّكْ من أجل الله، لترى الله وترى عنايته.
إنّ الإنسان الذي تحرّك لله، وتوكّل عليه، فإنّه لا يخشى من تهديدات أمريكا، حتى ولو أضيفت إليها تهديدات الاتّحاد السو ڤييتي.
ولأذكر لكم مورداً آخر من مختصّات هذا الرجل العظيم، هذا الرجل الذي، ينشر ويُرسل في النهار تلك البيانات الثائرة اللاهبة، هو الذي يُناجي ربّه في الأسحار ساعةً واحدةً على الأقلّ، وتُسكب دموعه بطريقةٍ يصعُب تصديقها. إنّ هذا الرجل هو نموذج حقيقي ممّن سار على خُطى الإمام علي (عليه السلام).
قيل في الإمام علي (عليه السلام) إنّه هو الضحَّاك إذا اشتدَّ الضِّراب في ميدان القتال، وهو البكّاء في محراب العبادة بحيث يُغشى عليه من شدّة البكاء.
أتمنّى أنْ يمنح الله هذا القائد عمراً طويلاً ويوفّقه للخدمة، ويوفّقنا جميعاً أنْ نكون حماةً حقيقييّن للإسلام.
* من كتاب: نهضة الإنسان، الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل – مركز المعارف للتأليف والتحقيق
[1] من كبار الفقهاء والمفسّرين توفي سنة 548هـ. وللتوسُّع يراجع معالم العلماء، ص 25، كشكول البحراني، ج1، ص301، إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون،ج1، ص31، معجم المؤلفين،ج 2، ص10، أعيان الشيعة،ج 9، ص99، الذريعة إلى تصانيف الشيعة،ج 1، ص281، وغيرها.
[2] كتاب “بحار الأنوار” عبارة عن دائرة معارف إسلامية في 110 مجلدات، للعلّامة محمّد باقر المجلسي، المتوفّى سنة 1111هـ. وللتوسُّع يُراجع: مقدّمة “بحار الأنوار” ج 1، ص 4 – 34؛ بقلم الحجّة: عبد الرحيم الرباني الشيرازي.
[3] أيّام الثورة.
[4] أهالي الجنوب، كناية عن الفقراء والمستضعفين حيث إنّ معظم سكانه هم من الفقراء.
[5] آخر رئيس وزراء للشاه هرب في الأيّام الأولى للثورة إلى باريس.
[6] القرآن الكريم،سورة محمّد، الآية 7.
[7] القرآن الكريم،سورة الكهف، الآية 14.
[8] نجلّ الإمام الأكبر، آية الله السيد مصطفى الخميني، الذي تُوفي في النجف الأشرف في عصر الشاه، وبقي سرّ وفاته غامضاً إلى الآن، (المترجم).
[9] إنّ الشهيد مطهّري(رضوان الله عليه) يُريد أن يقول: إنّ القائد الخميني(قدس سره) قد وجد بالتجربة أنّ ما كان لله ينمو، وأنّ مَن كان مع الله كان الله معه.