25 تشرين الثّاني هو يوم ذكرى وفاة العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائي صاحب تفسير (الميزان في تفسير القرآن)، وهو إضافة إلى اشتهاره بالتّفسير، فإنّه فقيه وأصوليّ ومن كبار علماء مدرسة أهل البيت في القرن العشرين، وفي اليوم المذكور من عام 1981 ارتحل وترك آثاراً علميّة باهرة، أصبحت موضع تدريس وشرح وتعليق وترجمة الباحثين والمحقّقين.
ونقف فقط عند بعض ما كتبه بشأن إيقاظ الشّعب الإيرانيّ بالفارسيّة ثمّ تُرجم إلى اللّغات الأخرى. ومحور خطابه الإيقاظيّ يدور حول التّأكيد على ما في دائرة الحضارة الإسلاميّة من تراث عظيم، وحول عدم اهتمام الشّرقيّين بهذا التّراث.
وخطاب الإيقاظ هذا الذي أطلقه الطّباطبائيّ وأمثاله من دعاة الإيقاظ هو الذي أدّى إلى قيام الثّورة الإسلاميّة في إيران.
يقول في كتابه “الإسلام ومتطلّبات العصر” ما ترجمته:
لا يمكننا أن ننكر الأهميّة الكبرى للحلول التي يقدّمها مذهب صحيح –كالمذهب الإسلاميّ– لمتطلّبات الحياة الإنسانيّة في كلّ عصر، إذ إنّها معادلة لأهميّة حياة النّوع الإنسانيّ، ولا متاع أغلى منه لدى أفراد البشر.
أيّ فرد أوتي نصيباً من فهم الإسلام والولاء له بشكل عامّ يدرك في قرارة نفسه هذه المسألة، لكنّها -كسائر مسائل الإسلام الأخرى- عاشت قروناّ متطاولة في حياة أفراد المسلمين ونفوسهم، فغدت –كسائر المقدّسات الدّينيّة– تعيش في ضمائر الأفراد وأعماقهم دون أن تمسّها يد البحث والتّطلّع والمناقشة.
إنّ حريّة التّفكير وخاصّة في الأمور الاجتماعيّة، لا وجود لها في تاريخنا -نحن الشرقيّين- ، وإنّ إطلالة الفجر التي شهدتها الفترة القصيرة من صدر الإسلام، سرعان ما غطّتها غيوم سوداء على أثر الحوادث الطبيعيّة والمفتعلة التي عصفت بخطّ الرّسالة، وعدنا بعدها إلى ظلمات العبوديّة والذّلّ والخنوع، لنعيش على أنغام قرع السّوط وضرب السّيف، والتّهليل والتّكبير باسم الجبابرة والطّغاة.
كان أكبر ما يستطيع أن يحقّقه الفرد هو المحافظة على نصوص دينه دون أن تمسّها يد العابثين، وكانت هذه إرادة الطّغاة المتحكّمين. إنّهم أرادوا أن يعيش الأفراد همومهم الخاصّة دون أن يتعدّوها إلى القضايا العامّة والمسائل الاجتماعيّة التي أضحت حقّاً خاصّاً للسّلطان.
لم يرَ المتحكّمون ضرراً في التزام النّاس بالطّقوس الدّينيّة الفرديّة، لكنّ الذي أصرّوا عليه هو شلّ الفكر وإخصاء المفكّرين والمنتقدين، كي يكونوا هم وحدهم الدّماغ المفكّر لا يشاركهم في ذلك أحد.
إنّهم أدركوا أنّ حريّة التّفكير تطلق الإرادات لتتّحد وتجتمع، فما كان منهم إلا أن يتحكّموا بالأفكار كي يتسنّى لهم اللّعب بالمقدّرات بأيّة صورة شاءوا، هذه حقائق تاريخيّة تتّضح لكلّ متطلّع دونما شكّ أو ترديد.
ولقد أتانا رسول الغرب يبشّرنا بحريّةٍ ذات وهج وبريق، أتانا أولاً ضيفاّ، ثم أضحى بعدها مالكاً مقتدرا. إنّ الاطروحة التي جاءنا بها الغرب هيّأت لنا فرصة ذهبيّة لنستعيد ما سُلب منّا خلال القرون المتطاولة، ولأنْ نفكّر بوجودنا وكياننا وتراثنا من جديد، لكنّنا مع الأسف، صحونا صحوة إنسان لا زال يُثقل جفونه النّوم العميق، ولم نشأ أن نستفيد من هذه الفرصة، فاستغلّ البشير الغربيّ هذه الغفلة ليجلس مكان ذاك السّلطان المتحكّم في الأفكار والعقول، وأضحى هو العقل المفكّر المدبّر.
وفجأة صحونا لنرى «الإرادات السّامية» للسّلاطين قد تبدّلت بإرادة القدرات الأوروبيّة.. لنرى أنفسنا قد انسقنا إلى الطّريق الذي رسمه لنا الغرب وأرادتْه لنا أوروبا.
ألفٌ من السّنين تصرّمت وأرض إيران تحتضن جسد ابن سينا ومؤلّفاته الفلسفيّة والطبّيّة، لكنّنا لم نحرّك ساكنا، وسبعمائة سنة خلت كانت كتب نصير الدّين الطّوسيّ ومؤلّفاته العلميّة خلالها نصب أعيننا، لكنّه لم يحدث شيء. إلا أنّه حينما نهض الأوروبيّون ليحيوا ذكريات علمائهم، «نهضنا!» نحن أيضاً لنحيي الذّكريات المئويّة والألفيّة لعلمائنا، أكثر من ثلاثمائة سنة مضت، وفلسفة صدر المتألّهين الشّيرازي مدار بحث ونقاش وشرح.. إلا أنّه حينما تحدّث أحد المستشرقين –قبل أعوام– عن فلسفة صدر المتألّهين في إحدى مؤتمرات الجامعة أحدث ضجّة في الأوساط الجامعيّة ليس لها نظير، علماً بأنّ الجامعة كانت لسنوات متطاولة تدرّس الفلسفة في أروقتها المرمريّة الجذّابة!
هذه نماذج واقعيّة تلقي الضّوء على شخصيّتنا الفكريّة.. إنّها تدلّ على تطفّلنا الفكريّ.. وعلى ضياع تراثنا العلميّ.
إنّ الذي لا مناص من التّسليم به هو أنّ القرآن حين يتحدّث عن الدّين السّماويّ وغيبيّاته وارتباطه بنظام الكون، وعن العالم المتغيّر وثبات الأسس الدّينيّة، والأخلاق الفاضلة وسعادة الفرد والمجتمع وشقائهما.. يتحدّث عن كلّ هذا بشكل يختلف عن الطّريقة التي يتحدّث بها أولئك العلماء الغربيّون المذكورون. القرآن الكريم يبحث في هذه المسائل ضمن إطار يختلف عن الأطر التي تحدّدها البحوث المادّيّة.
والنّظام الاسلاميّ في الفهم القرآنيّ، عبارة عن مجموعة من القوانين والنّظم التي تطابق نظام الخلقة والتّكوين.. وهي ثابتة لا تمسّها يد الأهواء والرّغبات، تجسّد الحقّ، ولا تتبع الأهواء الدّيكتاتوريّة الفرديّة، ولا إرادة الأكثريّة.. بل إنّها تسلب حقّ التّبديل والتّغيير من أيّة سلطة، وتسلّم مقاليد الأمور إلى النّظام الكونيّ.. إلى إرادة اللّٰه.
المصدر: موقع المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية