قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿مُّحَمَّد رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم﴾[1].
هنا تتّضح معالم المجتمع الإسلامي، والقضيّة الأُولى المذكورة هي صحبة الرسول والإيمان به. والقضيّة الثانية هي الشدّة على الكفّار، أي القوّة أمام الأجنبي.
الشدّة على العدوّ
إحدى الصفات التي يجب أن يتّصف بها المسلم، وهي الصفة الأولى التي يذكرها له القرآن هي الشدّة والقوّة والصلابة مع العدوّ؛ فالإسلام لا يحبّ المؤمن الضعيف.﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلأَعلَونَ إِن كُنتُم مُّؤمِنِين﴾[2].
الإسلام دين لا ضعف فيه. يذكر ويل ديورانت في كتابه “قصَّة الحضارة”: “لم يدعُ دين أتباعه إلى القوّة كالإسلام”. فالمسلمون يجب أن يكونوا أشدّاء على الكفّار كالحديد، وكسَدِّ الإسكندر.
المودّة فيما بينهم
ولكن كيف تكون علاقتهم فيما بينهم وبين إخوانهم المسلمين؟ ﴿رُحَمَاءُ بَينَهُم﴾. حينما ننظر إلى بعض المتنسّكين لا نجد فيهم شيئًا من هذه الصفة؛ فلا مودّة ولا رحمة تجاه الآخرين فوجوههم عابسة دائمًا، فلا يتفاعلون مع أحد، ولا يخالطون أحدًا، ولا يضحكون مع أحد، ولا يبتسمون مع أحد، وكأنّ لهم المنَّة على كلّ البشر. هذه هي الصفة الثانية.
ألا تكفي هذه الشدّة على الكفّار والرحمة مع المسلمين ليكون المرء مسلمًا؟ كلّا. هناك صفة أخرى أيضا: الركوع والسجود لله ﴿تَرَىٰهُم رُكَّعا سُجَّدا يَبتَغُونَ فَضلا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضوَٰنا﴾[4].
في نفس الوقت الذي يكون فيه هذا الشخص شديدًا على الكفّار ورحيمًا مع المسلمين، تراه في محراب الصلاة راكعًا ساجدًا ﴿يَبتَغُونَ فَضلا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضوَٰنا﴾، يدعو ربّه لينال رضاه.
﴿سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِّن أَثَرِ ٱلسُّجُود﴾، أي أنّ المرء يعبد الله حتّى تتّضح آثار العبادة وآثار التقوى على وجناته وعلى وجهه، وكلّ من ينظر إليه يستشعر في وجهه معرفة الله وذكر الله، ومن يقع بصره عليه، يذكر الله. جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ الحواريّين سألوا عيسى بن مريم (عليهما السلام): “يا روح الله من نجالس؟” فقال: “من يذكّركم الله رؤيتُه ويزيد في علمِكم منطقُه ويرغّبكم في الخير عملُه”.
ثمّ جاءت تتمّة الآية: ﴿ذَٰلِكَ مَثَلُهُم فِي ٱلتَّورَىٰةِ وَمَثَلُهُم فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرعٍ أَخرَجَ شَطَٔهُۥ فََٔازَرَهُۥ فَٱستَغلَظَ فَٱستَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلكُفَّارَ﴾[5].
ورد ذكر هذه الصفة لهم في التوراة؛ فقالت عنهم أنّه ستأتي مثل هذه الأمّة، وفي الإنجيل مثل لهم بهذه الصفات. أمّة أبناؤها أشدّاء على الكفّار ورحماء بينهم، وركّعًا وسجّدًا، ويبتغون فضلًا من الله ورضوانًا.
ولكن لماذا يا ترى نعيش نحن المسلمون في هذه الحالة من الانحطاط، ولماذا نعاني من هذه الرزايا والمصائب، وأيّ من هذه الصفات متوفّرة فينا، وما هي الغاية المنشودة منّا؟[6].
العبادة والتحرّر
جاء في نصّ القرآن الكريم أنّ أحد الأهداف التي بُعث من أجلها الأنبياء هو تحرير بني الإنسان اجتماعيًّا، واستنقاذهم من العبوديّة لأحدهم الآخر[7].
وإحدى المناقب التي ينفرد بها القرآن الكريم هي قضيّة الحرّيّة الاجتماعيّة. لا أتصوّر وجود جملة عميقة ونابضة بالفاعليّة أكثر من الجملة الواردة في القرآن الكريم في هذا الصدد، ولا يمكن العثور على جملة أكثر بلاغًا ممّا ورد في القرآن، وهو قوله تعالى:﴿قُل يَٰأَهلَ ٱلكِتَٰبِ تَعَالَواْ إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاءِ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِۦ شَيئا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾[8].
وفي ظلّ هذه الدعوة تنعدم جميع الفوارق وتزول أسباب التفاضل، ويُلغى نظام السادة والعبيد، ولا يحقّ لأحد استغلال الآخر ولا استعباده[9].
* من كتاب: الأسوة الحسنة – مركز المعارف الإسلامية للتأليف والتحقيق
[1] القرآن الكريم، سورة الفتح، الآية 29.
[2] القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 139.
[3] القرآن الكريم، سورة الضحى، الآية 11.
[4] القرآن الكريم، سورة الفتح، الآية 29.
[5] القرآن الكريم، سورة الفتح، الآية 29.
[6] مقالات إسلاميّة، ص60 – 64.
[7] مقالات إسلاميّة، ص12.
[8] القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 64.
[9] مقالات إسلاميّة، ص13.