خاص الاجتهاد:
يُعدُّ الاجتهاد الفقهي، بمعناه الاصطلاحي التخصصي لدى فقهاء المذاهب الإسلامية، ظاهرةً معقدة ومتعددة الأوجه، لا يمكن اختزالها في بُعدٍ نظري أو عملي واحد. فعند دراسة الاجتهاد، يجب أخذ عناصر متعددة ومتشابكة بعين الاعتبار، تساهم جميعها في توجيه عملية استنباط الحكم الشرعي من مصادر الوحي، وهي: الأصول والمباني الكلامية والفقهية، المصادر والأدلة المعتبرة، منهج ومراحل الاستنباط، القواعد الفقهية، معايير تقييم الأدلة، بالإضافة إلى الطاقات التاريخية والفكرية للتراث الفقهي.
هذه المنظومة من المكونات، التي تمتد من نقطة الشروع (النص الديني) وصولاً إلى النتيجة النهائية (صدور الفتوى أو الحكم)، تشكل البنية التحتية لكل فعل اجتهادي، ولكل منها أهميتها التحليلية والعملية في موضعها.
وفي خضم هذه المكونات، يحتل “المنهج” مكانةً تقريرية حاسمة، إلا أن تأثيره ليس بالشكل الذي يجعل تمايز النظريات الفقهية رهناً بالاختلاف في المنهج فحسب. فالمنهج، بوصفه “طريقة تنظيم وتبيين حركة الاستنباط من المصادر نحو الحكم وفق قواعد محددة”، يضمن شفافية العملية الاجتهادية وانسجامها؛ ومع ذلك، فإن اختزال الاجتهاد في مجرد “المنهج الفقهي” لا يتسق مع المشرب التاريخي للفقهاء، ولا مع المفهوم النظري الواسع للاجتهاد.
إن التجربة العملية للفقهاء ومتونهم النظرية تشير إلى أن الاختلافات المشهودة بين النظريات الاجتهادية تجذر في التباينات البنيوية في “الأصول والمباني” الفقهية والكلامية. وبعبارة أخرى، فإن المباني المعرفية (الإبستمولوجية) واللاهوتية والأصولية للفقيه هي التي توفر الإطار المفاهيمي الذي تتشكل في ضوئه مناهج الاستنباط وتكتسب اتجاهاتها؛ وعليه، فإن العلاقة بين “المباني” و”المنهج” هي علاقة علّية وتوجيهية، وليست عكسية.
إنّ التأكيد على هذا التوجه ينطوي على أهمية نظرية وعملية بالغة، ويعدّ ضرورة لا غنى عنها في التحليل النقدي للنظريات الاجتهادية القائمة على “محورية المنهج”. ففي حال اتخاذ “المنهج” معياراً رئيساً للتمايز بين النظريات، يبرز خطر يتمثل في إرجاع الفوارق السطحية أو الشكلية إلى خلافات جذرية. إن مثل هذا المقاربة قد تكون مضللة؛ لأن المنهج -بمعزل عن المسبقات الأصولية والمباني التأسيسية- يظل قابلاً للتغيير والتأويل. وبعبارة أخرى: المناهج ما هي إلا ثمرة للوعي بالأصول والتبيينات الفلسفية والكلامية.
فعلى سبيل المثال، قد يتوسل فقيهان بآليات إجرائية متشابهة في استنباط الحكم، بيد أن مخرجاتهما الاستنباطية تأتي متغايرة؛ نظراً لوجود اختلاف في فهم المباني، كفهم مفهوم “النص”، وضوابط “التأويل”، أو معايير حجية “السنة”.
علاوة على ذلك، من المتعين رسم حدود دقيقة بين “الرؤية النظرية” للاجتهاد وبين “آليات التطبيق” لدى الفقهاء. ففي السياق التاريخي للفقه الإسلامي، تطور الاجتهاد بوصفه تقليداً عقلانياً فقهياً واجه باستمرار التحديات المستجدة والضرورات الزمانية. ويشير هذا التاريخ الفكري إلى أن التعدد في المناهج ليس مجرد انعكاس للابتكار التقني فحسب، بل هو نتاج لتنوع المباني والمتطلبات الاجتماعية والسياسية والمعرفية للمجتمعات الإسلامية. من هنا، فإن التحليلات المنصفة والدقيقة لتمايز النظريات الاجتهادية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار -وبشكل متزامن- المباحث الأصولية، والتطبيقات العملية، والسوابق التاريخية.
بناءً على ذلك، فإن المقاربة التي تحصر دراسة الاجتهاد في زاوية “المنهجية” الضيقة، تعكس قصوراً تحليلياً قد يؤدي إلى تحريف الواقع المعقد للاجتهاد في بعديه النظري والعملي. إن الاستخدام الصحيح لمفهوم الاجتهاد يستلزم التفاتاً متزامناً للمباني الأصولية وقواعد ومنهجيات الاستنباط معاً؛ إذ المناهج تابعة للمباني ومفسرة لها، وليست أصلاً مستقلاً بذاته.
وعليه، يجب في الدراسات التطبيقية المقارنة والتحليلية للمذاهب الفقهية أن يُبحث عن ملاك التمايز -بالدرجة الأولى- في التباينات والتناقضات الواقعة في “الأصول والمباني”، مع اعتبار “المنهج” مجرد مكوّن متأثر بها، لا معياراً محورياً ومستقلاً للتمايز. وهذا النهج هو السائد حالياً في بعض مصنفات “منهجية الاجتهاد”.
خطاب المنهج في فقه الإمامية
تُعرف “منهجية الفقه” بأنها الدراسة النسقية لكيفية تحصيل الأحكام الشرعية وقواعد الاستنباط. وفي مدرسة الفقه الإمامي، يحمل هذا البحث دلالات تتجاوز مجرد “الفن الفقهي”؛ إذ إن المباني الكلامية، ومسائل الإمامة، والتعامل مع النصوص النقلية، ونسبة العقل إلى النقل، تشكل بمجموعها إطاراً خاصاً لتبیین المنهج.
وتبرز ضرورة تناول المنهج من جنبتين:
الأولى: ضمان الحجية والقدرة الإقناعية لاستنباطات الفقهاء.
الثانية: الاستجابة للتحديات الناشئة (الاجتماعية، العلمية، والقانونية) التي تتطلب أدوات منهجية أكثر وضوحاً ومرونة.
لقد شهدت الدراسات الفقهية في مدرسة الإمامية خلال العقد الأخير
إرهاصات تحولات نوعية متعددة؛ لعلّ من أبرزها الاهتمام الواسع من قبل الباحثين بمسألة “المنهج” و”منهجية الفقه والاجتهاد”.
على الرغم من الانشغال الدائم لفقهاء الإمامية بالمسائل الأصولية والاجتهادية، إلا أن المقاربة النقدية والنظرية تجاه “المنهج” وإعادة قراءة النصوص الفقاهتية من منظار “المنهجية”، تُعدّ ابتكاراً متمايزاً طفا على السطح خلال العقد الأخير.
إن استقراء علل وخلفيات هذا التحول يتطلب بحثاً مستفيضاً ليس هذا محل بسطه، ولكن يمكن إجمالاً إرجاع جذوره إلى الاستجابة للاحتياجات النظرية والعملية للمجتمع العلمي؛ بحثاً عن تنسیق مناهج الاستنباط، وتحليل المباني، وتبيين حدود وقابليات الاجتهاد. ومن زاوية أخرى، يأتي هذا التحول استجابةً لتيار “التجديد الفقهي” الذي يسعى للابتكار داخل الفقه التقليدي، ويُنظّر لما يُعرف بـ “الاجتهاد في أصل الاجتهاد”.
سمات خطاب المنهج في الفقه الإمامي المعاصر
اتسم خطاب المنهج في العقد الماضي لدى المؤيدين والمعارضين بعدة ميزات أساسية:
نقدية المقاربة: لم يكتفِ الباحثون بشرح المناهج المتقدمة، بل عمدوا إلى نقد وإعادة بناء مبانی وعمليات الاستنباط.
تعدد المناهج: تصاعد الاهتمام بالمناهج التحليلية، التاريخية، المقارنة، وحتى الدراسات العابرة للتخصصات (كالتفاعل مع فلسفة القانون والعلوم الاجتماعية).
استنطاق المصادر الكلاسيكية: تمت إعادة قراءة المتون الأصولية والفقهية التراثية للكشف عن المناهج الضمنية والصورية الكامنة فيها.
البعد التطبيقي: تسارعت الجهود لربط النظريات المنهجية بالعمليات الإجرائية للاجتهاد و”فقه الدولة”.
في الخطاب المنهجي الأخير، يتعين الفصل بدقة بين محورين: التعريف الدقيق لمفهوم “المنهج” وتمييزه عن “القواعد الفقهية”، “الأصول والمباني”، و”الأدلة والمستندات”؛ ثم تحليل مراحل الاستنباط (من النص وصولاً إلى الفتوى/الحكم). وبعبارة أخرى، يجب تبيين مستويين للمنهج: المستوى الماهوي والمستوى العملياتي.
التحديات والآفاق المستقبلية
مع اتساع رقعة هذا الخطاب، تبرز جملة من التحديات:
خطر الإفراط في التنظير المنهجي بما قد يؤدي إلى الابتعاد عن النص الديني والتقليد الفقهي الرصين.
فجوة التطبيق:
صعوبة التوفيق بين المخرجات النظرية للمنهجية وبين الاحتياجات العملية للمنظومتين الفقاهتية والقضائية.
ضعف الدراسات المقارنة: الحاجة إلى دراسات نسقية تستفيد من التجارب الفقهية للمذاهب الأخرى أو الحقوق المعاصرة.
الاحتياج التعليمي:
ضرورة إدراج التأصيل المنهجي في الحوزات والجامعات لضمان الأثر العملي للبحوث.
ومن أجل الدفع بعجلة خطاب المنهج نحو الأمام بفعالية، يُقترح أن تتخذ الأبحاث صبغة “بينية” عابرة للتخصصات أكثر من ذي قبل، وأن يتم تصميم مشاريع بحثية مقارنة، مع بذل جهود متزامنة لتجسير الفجوة وبناء الجسور بين النظرية والتطبيق؛ كما يمكن للمؤسسات الحوزوية والأكاديمية أن تضطلع بدور محوري في تنمية وترسيخ الفهم المنهجي، بما يضمن تمكين الاجتهاد المعاصر من امتلاك القدرة على الاستجابة للتحديات والقضايا المستجدة
الخلاصة: إن خطاب المنهج المتنامي في فقه الإمامية هو مظهر من مظاهر النضج النظري، وهو يتيح للفقه الانفتاح على قضايا العصر بأدوات تحليلية أكثر دقة. واستمرار هذا المسار رهينٌ بإيجاد توازن دقيق بين الابتكار النظري واحترام التراث الفقهي، مع التركيز على قابلية تطبيق النتائج في البنى الفقهية والحقوقية للمجتمع.
بقلم: علي راد





