Search
Close this search box.

صلح الإمام الحسن (ع) بین الواقع وظلم التأريخ…دراسة تحليلية

صلح الإمام الحسن (ع) بین الواقع وظلم التأريخ...دراسة تحليلية

إن صياغة التاريخ الإسلامي للمفردات التي تحدّث عنها قد أضفت عليه الكثير من الغموض وعدم الوضوح في جملة كبيرة من الوقائع والأحداث، مع ما لها من الأهمية والحساسية بالنسبة للمسلمين. ولعل واحدة من هذه المفردات هي صلح الإمام الحسن عليه السلام فالتأريخ قد أسدل الستار على تلكم الوقائع والتي لو بانت واُفصح عنها لتغيرت كثيراً من الأحكام التي قد صدرت عن البعض بغير وجه حق .

 ونحن هنا لسنا بصدد محاكمة من قاموا بذلك ، ولكننا نريد النظر في حقيقة الأمر من جهة كونه حادثة تاريخية .

فعلى سبيل الفرض نجد أن الطبري وابن الأثير عندما يتكلمون حول وثيقة الصلح مع معاوية لم يذكروا لنا تلك البنود التي فرضها الإمام الحسن على معاوية ، بل اكتفوا بنقل عبارة توحي بأن معاوية فتح الباب على مصراعيه بقبول شروط الإمام عليه السلام .

ونص ما قالوه هو التالي:

أن معاوية أرسل الى الحسن صحيفة بيضاء مختوماً على أسفلها بختمه ، وكتب إليه : أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت ، فهو لك ([1]). ثم قُطّع الحديث ، فلم يذكروا بعد ذلك ، ماذا كتب الإمام الحسن على صحيفة معاوية. ولمن يتتبع المصادر التاريخية التي ذكرت بنود الصلح وشروطه فلم يجد سوى النزر اليسير من توثيق لهذا الحدث التأريخي المهم .

وكذلك انعكس هذا الأمر في روايات بعض المحدثين فإننا نجد الذهبي في تأريخه قد اختزل هذا الحدث برواية ينقلها عن الحسن البصري عن أبي موسى : استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : والله إني لأرى كتائب لا تولي أو تقتل أقرانها .

وقال معاوية وكان خير الرجلين : أرأيت إن قتل هؤلاء هؤلاء ، من لي بذراريهم ، من لي بأمورهم ، من لي بنسائهم قال : فبعث عبد الرحمن بن سمرة ، فصالح الحسن معاوية وسلّم الأمر له ([2]).

فهنا كما نلاحظ اُختزل تاريخ الإمام الحسن تماماً وما قام به من دور في الصلح مع معاوية ، معاوية الذي وصفه العقاد شارحاً سياسته: قال: كانت له حيلته التي كررها وأتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة ، العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه ، بإلقاء الشبهات بينهم ، وإثارة الإحن فيهم ، ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه ، كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق .. فلو أنه استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزبا منابذاً لغيره من رجال الدولة كافة لفعل ! ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح لما وصفه بغير مفرق الجماعات.. ([3]).

فمعاوية سياسته قائمة على الحيلة والتفريق وإثارة الإحن ولو حاسبه التأريخ حسابه الصحيح كما يقول العقاد ، لوصفه بمفرّق الجماعات .

ومع هذا كله نجد الذهبي يجعله كالحمل الوديع ، مختصراً تلك الحقبة بكلمات لا تكاد تنحصر بخمسة أسطر ، ومن دقق فيها يجد الغرابة ، فمعاوية الذي هو خير الرجلين يتحسّر أسفاً على الذراري والنساء لو قام الإمام الحسن بالقتال .

ثم إن عمرو بن العاص رأى كتائب لا تولي ، كنايةً عن كثرة الجيش ، فنسأل ما هي الأسباب التي أدت الى الصلح مع هذه الكثرة الكاثرة من الكتائب أمثال الجبال؟ وما هي مجريات الأحداث التي برزت في تلكم الفترة ، بحيث أن الإمام سرعان ما يقبل من عبد الرحمن بن سمرة فيصالح ، ويسلم الأمر الى معاوية .

وللأسف أننا نجد من ينقل هذه الروايات ويتبناها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ، الهيتمي في صواعقه ، يقول : >وبعد تلك الأشهر الستة سار إلى معاوية في أربعين ألفاً ، وسار إليه معاوية فلما تراءى الجمعان ، علم الحسن أنه لن يغلب أحد الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى ، فكتب إلى معاوية بخبر ، أنه يصير الأمر إليه ، على أن تكون له الخلافة من بعده ،وعلى أن لا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان أيام أبيه ، وعلى أن يقضي عنه ديونه ، فأجابه معاوية إلى طلب إلا عشرة ، فلم يزل يراجع حتى بعث إليه برق أبيض، وقال: اكتب ما شئت فيه فأنا التزمه.

كذا في كتب السّير([4]). هذه هي السيّر التي نقل منها ابن حجر، وللأسف نجد أن من يأتي من بعده يعتمد هذا النقل الخالي من الموضوعية ، فيتجنى على التأريخ فيحمّل الإمام الحسن ×مسؤولية الصلح وتسليم الأمر الى معاوية وإعطائه قيادة الأمة ، وأنه كان يرغب في التخلّي عن مركز الحكم تهرباً من مسؤوليات الحرب ؛ لأنه راغب للسّلم أكثر منه للحرب .

ولكن هذا التبرير باطل جزماً ؛ لأن مواقف الامام الحسن في ميدان الحرب تشهد بفروسيته وبطولته ، يقول كامل سليمان واصفاً شجاعته : فهو من أركان الحرب عند أبيه ومن أمراء جيشه ، وهو منه ساعد قوي ومعوان عظيم ، فأبو تراب يزحف وأولاده من حوله يشدون أزره ويسندون ظهره ، وكلهم ليث قاصم الضربة ([5]).

والذي يؤكد هذا الكلام مواقفه في حرب الجمل وغيرها، فقد روى ابن شهر آشوب في مناقبه : > دعا أمير المؤمنين عليه السلام محمد بن الحنفية يوم الجمل، فأعطاه رمحه وقال له : اقصد بهذا الرمح قصد الجمل، فذهب فمنعوه بنو ضبة ، فلما رجع إلى والده انتزع الحسن رمحه من يده وقصده قصد الجمل وطعنه برمحه، ورجع إلى والده وعلى رمحه أثر الدم، فتمغر وجه محمد من ذلك ، فقال أمير المؤمنين لا تأنف فإنه ابن النبي وأنت ابن علي ([6]). فابن النبي ’لا يهاب تلك الجيوش وتقدم برباطة جأش ليطيح بذلك الجمل الذي يُعد هو الرمز لتلك المعركة .

إذن فالتأريخ لمن يتفحصه بعين الباحث عن الحقيقة لم يجده أنصف الإمام الحسن عليه السلام في هذا الحدث المهم والمفصلي في تأريخ البشرية.

لذا سنلقي إضاءات حول مجريات هذا الحدث التأريخي وذلك من خلال ثلاثة فصول .

الأول : قبسات من حياة الإمام الحسن وخلافته وإمامته ، مروراً ببيعته .

الثاني : الصلح وأسبابه ونتائجه وثمراته.

الثالث : دفع بعض الشبهات التي اُثيرت حول الصلح .

د. يحيى عبد الحسن الدوخي

الهوامش

([1]) الطبري ، تاريخ الطبري : ج 4 ص124 .

([2]) الذهبي ، تاريخ الإسلام: ج4 ص 38 ، الناشر: دار الكتاب العربي ، ط 1 ، 1407 هـ .

([3]) العقاد ، معاوية : ص 36 -37 ، الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر .

([4]) ابن حجر الهيتمي ، الصواعق المحرقة : ج2 ص 398 ، الناشر : مؤسسة الرسالة – بيروت ، ط 1 ، 1997م .

([5]) كامل سليمان ، الحسن بن علي ؛ ص 35 ، الناشر : دار المعارف – بيروت .

([6]) مناقب آل أبي طالب ، ج 3 ص 185 . الناشر : المطبعة الحيدرية – النجف الأشرف .

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل