تخبرنا المخطوطات عن تاريخ مرقد الإمام الرضا عليه السلام أن أبوابه كانت تُفتح في النهار حصرًا، ويتم إغلاقها ليلًا، إلا أن خدم الحرم المبارك كانوا يفتحون هذه الأبواب على مدار الساعة في بعض الأيام، ومنها شهرا محرم وصفر، والنصف من شعبان، وليالي القدر وأيام من شهر رجب الأصب.
وبمناسبة شهر صفر، نستعرض تاريخ إنارة الحرم الرضوي المطهّر، ووسائل الإضاءة قديمًا قبل اختراع الكهرباء، حيث كان الناس يعتمدون أضواء الشموع والمصابيح الزيتية للحصول على الإنارة الكافية لإحياء هذه الليالي داخل الحرم المبارك.
مرحلة الشمعدانات والمشاعل
أول خبر مكتوب عن طرق الإضاءة في المرقد الرضوي قبل شيوع الكهرباء ذكره بهاء الدّين الإربلي، أحد أعلام الشيعة في القرن السابع الهجري، في كتابه “كشفُ الغُمَّة في مَعرِفَةِ الأئمّة”، ناقلًا لنا في بضعة أسطر حال مسافر دخل الحرم ليلًا، وسأل الخدام عن مصباحٍ، فأخبروه بعدم وجود مصابيح. ومن هذه الحادثة المنقولة احتمل الباحثون أن المرقد المطهّر لم يكن بعْدُ قد استخدم الإضاءة في تلك الحقبة، ولكن في مركز العتبة الرضوية المقدسة للوثائق توجد ثماني وثائق وقف مهمة تعود إلى العصر الصفويّ تتحدّث عن التكاليف التي صُرفت على تأمين الإنارة في المرقد والضريح الشریف على وجه الخصوص.
وقد ذُكِرت في تلك الوثائق أنواع عديدة من وسائل الإضاءة، منها: الشموع، والشمعدانات، والمشاعل، والقناديل، والمصابيح، والفوانيس، والثريّات، وأن لها دورًا مهمًّا في إنارة الحرم الرضوي المطهّر خلال حُقَب مختلفة.
وقد أشارت الباحثة الأكاديميّة سعيدة جلاليان إلى أن “أسلوب العمارة المعتمد في بناء أضرحة الأئمة الأطهار عليهم السلام لا يفسح المجال أمام الضوء الطبيعي ليصل إلى الأقسام الداخلية منها، إلا قليلًا، بحيث بات من اللازم استخدام مختلف الأدوات والوسائل لتأمين الإنارة الكافية لهذه الأمكنة.
وهذا الأمر تحديدًا، يحوز أهمية أكبر إذا ما تحدثنا عن غرف الأضرحة على وجه الخصوص، لأن وجود قبة فوق الضريح الشريف يمنع دخول أشعة النور إلى تلك الغرف. ومن جهة أخرى، لا بد من الأخذ في الاعتبار أن مكان الضريح على مسافة ليست بالقليلة من المحيط الخارجي، ولا توجد شبابيك ولا فتحات تسمح بمرور الضوء. وبما أنّ الضريح هو المقصد الأساسي لزائري قبور الأولياء، وحوله تتجمع أعداد كبيرة من الناس، فقد كانت إضاءة الحرم والضريح من أولويات الواقفين والمتبرعين”.
مرحلة “الثريّات” الفضيّة
زار الرّحّالة ابن بطوطة أثناء تجواله في إيران بالقرن الثامن الهجري مدينة مشهد المقدسة، وكتب عن الثريّات الفضية المتدلية من سقف مرقد الإمام الرضا (عليه السلام). وفي القرن التاسع الهجري، أهدى السّلطان شاهرخ تيموريّ المرقد الشریف ثريا مصنوعة من ٣ آلاف مثقال من الذهب تمّ تعليقها في سقف قبّة الحرم، وذلك وفاءً لنذر كان قد نذره.
وفي العام ١٠١٠ هجري قمري، وفي أول زيارة قام بها الشاه عباس الصفوي مشيًا على الأقدام من مدينة إصفهان إلى مشهد، أعطى أمرًا بإيجاد ثقوب داخل قبة الحرم المطهر ليخرج منها الدخان المنبعث عن احتراق الشموع والمصابيح الزيتية، وكان ذلك الدخان طاغيًا على الهواء داخل الحرم والقبة المطهرة.
إضاءة الحرم في وثائق الوقف
في كتاب “مطلع الشمس”، يحدّثنا اعتماد السلطنة عن إنارة المرقد في عصر الدولة الصفوية، موضحًا أن السلاطين والأمراء – بعد إعلان المذهب الشيعي مذهبًا رسميًّا لإيران – كانوا يحضرون الكثير من القناديل والشمعدانات المصنوعة من الذهب والفضة هدايا للمرقد الشریف.
ونجد في وثيقتين وقفيّتين لمرتضى قلي بيك يعود تاريخهما إلى عام ١٠٨٢ هجري قمري شاهدًا لذلك، فقد أوقف عوائد ١١ محلًا تجاريًّا كان يملكها في سوق “راه ميدان” من أجل إنارة ضریح الامام الرضا، مشدّدًا على عدم إغلاق الحرم في ليالي المناسبات المباركة، كليالي الجُمَع، والأعياد، وليالي القدر، والأول من رجب، والنصف من شعبان، وأيام عاشوراء وصفر، وعلى إشعال ٩ شموع في منطقة الضريح المبارك كلّ ليلة.
وكذلك كان الشاه سلطان حسين الصفويّ في وثيقة وقف يعود تاريخها إلى عام ١١١٩ هجري قمري، حیث أوقف عدّة مزارع وأراضٍ وقنوات مائية، ليخصّص ريعها من أجل شراء شمعٍ للشمعدانات الفضية التي كانت في ذلك الوقت تضيء الزوايا الأربع لغرفة ضريح الإمام الرضا.
وإضافة إلى ذلك، ثمّة وثيقتان بين العامين ١١٢٣ و١١٢٤ هجري قمري تقدّمان توضيحًا مختصرًا لكيفية تهيئة الشمع لشرف الضريح الأربعة. وتنص هاتان الوثيقتان على أن الشمع المستخدم في تلك الفترة كان من الشمع الكافوري، ليستبدل بعدها بالشمع الأصفر.
مرحلة المصابيح الزيتيّة
ولمّا انتشرت المصابيح الزيتية أدخلت الحرم المطهّر في العصر الأفشاري، ورغم ذلك بقي الخدّام يشعلون عددًا من الشموع داخل الحرم لإنارته ليلًا على مدار العام، كي لا یبقى الضريح الشريف في الظلام الحالك، إذ لم يكن ذلك معهودًا في ذلك الزمان.
وقد جاء في إحدى الوثائق أنّهم أطلقوا على هذه الشموع التي كانت توضع فوق الضريح المبارك لمساعدة الزوار على إحياء الليل اسم “شمع بدرقه”، أي خاصة بمراسم التودیع.
أمّا وثيقة وقف “يُلداش بيك” المؤرخة سنة ١١٥٨ هجري قمري – وهي واحدة من ٤٠ وثيقة باقية من العصر الأفشاري – فقد تحدّثت عن إضاءة الحرم المطهر، وفيها ذَكَرَ يُلداش بيك بن الإمام فيردي كوزه كناني، خادم العتبة الرضوية، لائحة مفصّلة بأسماء الأراضي والقنوات المائية وسائر الأمور التي أوقفها، ومن ضمنها مقدار من الفتائل والشموع والمصابيح الزيتية التي تستخدم في إنارة غرفة الضريح المبارك. وفي وثيقة أخرى، لـ “إبراهيم روشنكر نامي” دُوِّن أن مبلغًا معينًا قد أهدِيَ لإبقاء المصابیح مضاءة.
وفي وثيقة يعود تاريخها إلى عام ١١٨٢ هجري قمري، تعهّد “محمد رضا فراش باشي” بتأمين المحروقات اللازمة لإنارة الحرم ومبانيه لثلاث سنوات كاملة بمبلغ ٦٠٠ تومان. وقد جاء في أحد بنود هذه الوثيقة: “وحتى لو تعسّر تأمين الشمع، يتعهد رضا فراش باشي بإنارة غرفة الضريح المبارك بالودك (دَسَم الشّحم)، إلّا أنّ مقدار الودك يجب أن يكون ضعف المقدار المسجّل من الشمع”.
وفي عام ١٢٩٩ هجري قمري، وبأمر من ركن الدّولة محمد تقي ميرزا تمّ نصب أربع ثريات في الزوايا الأربع لغرفة ضريح الإمام الرضا، اثنتان منها من إهداء الشيخ جعفر الرشتي، أما الأخريان فقد أهداهما عمید مركز التلغراف حينها دون أن يدوّن اسمه في الوثيقة.
كما قدّم آقا محمد خان القاجاري في وثيقة من العصر القاجاري إلى الحرم المطهّر خمسة مصابيح مصنوعة من الذهب تزن حوالي ٥ أمنان (وحدة قديمة لقياس الوزن)، وقد علّق الخدّام هذه المصابيح في القسم الأعلى من الضريح الشریف.
وفي عام ١٢٦٢ هجري قمري أهدت والدة ناصر الدين القاجاري الأميرة مهدِ عُلیا مصباحًا من الذهب منقوشًا علیه ست وردات أقحوان وموصولًا بسلسلة من الفضة وزنها ٧٢٢ مثقالًا و٤.٢ غرامات.
وبعيدًا عن المصابيح المهداة، فقد تمّ ذكر الشموع المزيّنة بالورود المستخدمة في إنارة الحرم المطهر في أقدم وثيقة تعود للعصر القاجاري من سنة ١٢٥٠ هجري قمري.
نذورات الشمع
وفي الأعوام اللاحقة، شاع استخدام الشموع على أنواعها في إنارة أعلى الضريح وأطرافه، ففي العصر القاجاري زادت الحاجة إلى مزيد من الشموع لاستخدامها في إنارة مختلف أرجاء الحرم المطهر، ممّا دعا القائمين إلى فتح باب النذورات المخصصة للشموع.
وقد جاء في وثيقة تأريخها سنة ١٣٠٢ هجري قمري ما نصه: “وقع شمع من بعض الزوار على الأرض، فاشتعلت أوراق كانت بين الضريحين، وسارع الخدّام إلى إخمادها فور اطلاعهم على الأمر”، وبهذا نفهم أن الزوار في تلك الحقبة كانوا يأتون من خارج الحرم نحو الضريح، وهم يحملون شموعهم المنذورة لوضعها في أماكن مخصصة بهدف إنارة المكان.
في تلك الأيام، راجت صناعة الشمع في مدينة مشهد المقدسة، واستمر رواجها حتى عقود خلت في سائر المناطق المجاورة للعتبة المقدسة، حيث كان الناس يشترونها وفاء لنذورهم بإنارة الضريح الشريف، مما ساهم بشكل كبير – إلى جانب بقيّة الموقوفات – في تأمين الإنارة الكافية للمرقد الرضوي.
توصيل الكهرباء إلى الحرم المطهر
كان الاهتمام منقطع النظير بإضاءة الحرم أحد الأسباب الملحّة الداعية إلى أن يكون حرم الإمام علي بن موسى الرضا أول مكان في مشهد تصله الكهرباء، حيث تنص الكتابات التاريخية على أن مظفر الدين شاه القاجاري مرّ في رحلة عودته من أوروبا عام ١٣١٨ هجري قمري بمدينة باكو، ومكث فيها يومين، وهناك شاهد صناعة الطاقة الكهربائية، فأمر بجلب مولد كهربائي لتأمين إنارة الحرم المطهّر، وكانت قيمة المولّد آنذاك ٨ آلاف تومان بمحرك ١٢ حصانًا يولد طاقة بجهدٍ كهربائي يعادل ١١٠ فولتات.
وجاء في وثائق عام ١٣١٩ أن الكهرباء كانت تؤمّن الإضاءة لقسم من الحرم المطهّر لا كل الأقسام، ولذلك بقي استخدام الشمع أمرًا رائجًا في إنارة سائر الأروقة والصحن الشریف.
وفي أواخر العصر القاجاري، أي حوالي سنة ١٣٤٢ هجري قمري، أبرمت العتبة الرضوية المقدّسة عقدًا مع جعفر زاده نامي تعهّد فيه بزيادة إنارة الحرم الكهربائية إلى الضعف مقابل مبلغ ٧ ألاف تومان في السنة.
وطبق دراسة قام بها غلام رضا آذري خاكستر، فإن جعفر زاده كان أول من أسّس محلا لتوليد الكهرباء في مدينة مشهد المقدسة، حيث استأجر في البداية المكان الواقع في زقاق یعرف بـ”چراغ برق” لصالح العتبة الرضوية، ثم اشترى مولّدًا كهربائيًا بمحرك ٣٤ حصانًا و٢٢٠ فولتًا.