من جملة صفات عباد الله، عدم التعلق بالشهوات واللذائذ المادية الدنيوية الزائلة. صحيح أن المؤمنين كما سائر الناس بحاجة للاستفادة من الأمور واللذائذ الدنيوية للاستمرار في الحياة والبقاء فيها، إلا أنهم لا يتعلّقون بمقام الدنيا، بل يعتبرون ذلك مقدمة ووسيلة للقرب من الرضوان الإلهي.
إن المنهي عنه في التعاليم الدينية هو التعلق باللذائذ الدنيوية وجعلها هدفاً وليس الاستفادة منها. أما أصل الاستفادة من الشهوات واللذائذ الماديّة والدنيويّة عند المؤمنين فهو اعتباره مقدمة للسعادة والكمال، وهذا أمر مقبول ومطلوب. وسيحاول هذا المقال تفصيل الموضوع.
*عاشقو الله ناجون من مكائد الشهوات
“قد خلع سرابيل الشهوات وتخلّى عن الهموم إلا هماً واحداً انفرد به”1.
شبّه الإمام علي عليه السلام في هذه العبارة النورانيّة، الشهوة بالقميص وتعاطي الشهوات بارتدائه، ثم وصف محبّ الله بقوله: “قد خلع سرابيل الشهوات”. ولكن هل كل اللذائذ والشهوات الدنيوية مرفوضة كما يعتقد بعض أتباع الأديان المحرفة أو بعض الفرق الإسلامية؟ وهل يجب على كل من يسير نحو الله التخلي عنها جميعاً؟ أو أن الإمام عليه السلام يقصد شيئاً آخر من ارتداء لباس الشهوة؟ لقد أشرنا إلى ما يشبه هذا الحديث عند التعرض للباس الخوف. ويتضح مراد الإمام عليه السلام بعد دراسة المعنى اللغوي والاصطلاحي للشهوة واستخداماتها.
“الشهوة”: هي في اللغة “طلب النفس ما يوافق ميلها”، وجمعها شهوات، هذا في مقام الاسم. أما في مقام المصدر فهي بمعنى الميل والتمايل2. و”الاشتهاء” الذي هو مصدر من باب الافتعال، مشتق من الشهوة ويُعْنى به الميل والتمايل.
*الاستخدام التكويني للشهوة
إن أصل الميل والتمايل، المكنون في المعنى اللغوي للشهوة، هو أمر طبيعي وتكويني وضعه الله تعالى في الإنسان. وعلى هذا الأساس فعندما تظهر فينا الحاجة إلى الطعام، نميل إليه ونشتهيه. وبهذا النحو لا يمكن اعتبار الميل داخلاً في دائرة الأخلاق ولا يتصف بالحسن والقبح الأخلاقيين. وكما أن الميل في الدنيا أمر تكويني للإنسان، كذلك يمكن الحديث في الجنة عن الميل للّذّة والنعم الأخرى الموجودة فيها. قال الله تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (الزخرف: 71).
*الاستخدام التشريعي للشهوة
تستخدم الشهوة غالباً في العرف حول الغرائز والميول الجسمانية كالغريزة الجنسية والميل إلى الطعام، ولا تستخدم هذه العبارة للتعبير عن الميول المعنوية، كالميل نحو مناجاة الله، فلا نقول على سبيل المثال “شهوة المناجاة”. والشهوة والميل في هذا الاستخدام تدور في دائرة الأخلاق. واستخدم القرآن الكريم عبارة “الشهوة” وجمعها “الشهوات” في خمس آيات شريفة وذلك في مورد الذم:
المورد الأول: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء﴾ (الأعراف: 81).
المورد الثاني: وجاء تكرار الآية عينها مع إضافة همزة الاستفهام في بدايتها فكانت في قالب جملة استفهامية، وهذا ما يمكن مطالعته في الآية 55 من سورة النمل.
المورد الثالث: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).
تذم الآية الشريفة المتقدمة، التعلق باللذات الدنيوية وتزيين الأبدان بها؛ لأن التعلق بالدنيا ولذائذها يجعل الإنسان يضع كافة جهوده وأعماله في طريق متاع الدنيا الزائل، وهذا يعني ابتعاده عن حاجاته المتعالية وكماله الراقي وبالتالي التخلف عن السعادة الأبديّة والمقصد الأساسي. إذاً، المذموم في الآيات الشريفة هو التعلّق بالدنيا والغفلة عن المقصد الأبدي والنهائي؛ وإلا فالميل نحو اللذائذ الدنيوية أمر طبيعي وغريزي يتمكن الإنسان من خلاله تأمين احتياجاته الضرورية.
*التعلّق بالله ورضوانه
أما المهم والمطلوب من قبل الله تعالى، فهو عدم ترجيح اللذائذ الدنيوية الزائلة على اللذائذ الأخروية الباقية.
من هنا بدأت الآية اللاحقة وصف اللذائذ الأخروية للتأكيد على تقدّم وأفضليّة النعم واللذائذ الأخروية على الدنيوية وبذلك يتمكن الإنسان المؤمن من المقارنة بينها فإذا أدرك محدودية وتناهي اللذائذ الدنيوية وعدم محدودية وعدم تناهي اللذائذ الأخروية، عند ذلك يقطع الصلة بين قلبه والدنيا ولذائذها ويتعلق بالله ورضوانه: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 15).
*وساوس شيطانية
اتضح مما تقدم أن ما ذمّه الله تعالى، هو حب الشهوة واللذائذ الدنيوية والتعلق بها، هذا التعلق الذي يأتي نتيجة الوساوس الشيطانية. يقدم الشيطان النعم واللذائذ الدنيوية المستحقرة على أنها كبيرة وعظيمة ليجعل الناس في غفلة عن النعم الأخروية الباقية، لذلك يصرف الإنسان وقته وأمواله لأجل بعض اللذائذ الدنيويّة، ولكن عندما يصل إليها يجد أنها لا تستحقّ ما صرف لأجلها، فيقع في فخ الشيطان. وتسلب الوساوس الشيطانية الإنسان القدرة على الحساب الصحيح والتعقل وتجعل الإنسان بالتالي يفقد ثروة كبيرة في سبيل لذة قليلة، وعندما يصل إلى تلك اللذة يجد أنه قد خُدع. والغريب أن الإنسان لا يعتبر، فيعاود الكرة من جديد فيصدر عنه ذاك العمل فيقع في خداع الشيطان ويعود من جديد للندم.
وأما الموارد الأخرى ففي قسمٍ قادم من هذه المقالة.
1- نهج البلاغة، الخطبة 87.
2- مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص468.