بقلم الشيخ علي دعموش
لا شك أن لفرعون صفات منحرفة كثيرة، فقد كان كافراً، عابداً للأصنام، ظالماً، مجرماً. إلا أن القرآن طرح بقوة من بين كل هذه الانحرافات مسألة طغيان فرعون واستكباره واستبداده قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص / 4. وقال تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ طه / 24. ويمكن القول أن فرعون احتل مكاناً بارزاً في تاريخ الطغاة في الأرض، وانه احتل مكانه هذا بجدارة واقتدار، ذلك انه لم يكن إنساناً عادياً. ولا كان طاغية بسيطاً وإنما كان طاغية مركباً وجباراً ومستكبراً. كان ملكاً على مصر حين كانت مصر اكبر دولة في الأرض، وكان المُتَصور وقد آتاه الله الملك والسلطان أن يتواضع ويشكر.. ولكنه لم يفعل.. وفعل العكس تماماً وقد برزت فرعونية فرعون في سلسلة من الأفكار والأعمال والممارسات التي أقدم عليها والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
* الاستبداد والطغيان:
فان فرعون هو النموذج التقليدي للطغيان والاستبداد، فقد استكبر وعلا في الأرض، وعلى امتداد مصر كلها لم يكن هناك رأي سوى رأيه هو، ولا كانت هناك مشيئة باستثناء مشيئته هو، ولا كانت هناك إرادة غير إرادته هو. لقد ذاب الشعب المصري كله في إرادة فرعون، وصار فرعون هو مصر، وتحولت مصر إلى فرعون.
وهذا أول ما يفعله استبداد الطغاة بالشعوب، انه يُعدم إرادة الناس ويجهز عليها.. ويدمر حرية الإنسان التي هي أهم جزء من كرامته كانسان. وكان اخطر ما فعله فرعون انه ابتدع في الطغيان، وابتكر وتفنن. وكان ذلك هو السبب في إرسال موسى عليه السلام إلى فرعون حيث يقول تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ طه / 24.
ويحدثنا القرآن عن استخفاف فرعون بشعبه وخضوع الشعب له. ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ وهذا مظهر آخر من مظاهر طغيانه واستكباره. إذ المفروض أن يؤدي استخفاف الحاكم بشعبه إلى ثورة الشعب عليه وعصيانه أو على أقل تقدير إلى مقاومته والامتناع عن طاعته. هذا هو الأصل المفروض في أي مناخ طبيعي ولكن حكم فرعون لمصر لم يكن حكماً طبيعياً، وإنما كان الحكم استبدادياً جائراً قاهراً يتعامل بالسيف مع كل رأي معارض أو مخالف أو تفوح منه رائحة المعارضة أو إمكانياتها، وفي الحكم الاستبدادي تلتوي فطرة الناس وتفسد نفوسهم وتتراجع إرادتهم، ويصبح همهم هو النجاة من القتل والعذاب والمطاردة والترويع والسجن.
وهذا ما حدث للشعب المصري في عهد فرعون موسى.
ومن هنا لم يعد للشعب دور، ولا عادت له إرادة. والمظهر الآخر من مظاهر الطغيان الفرعوني هو استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص/4. فقد كان فرعون قد اصدر أمراً بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل، فان كانوا ذكوراً ذبحهم وان كانوا إناثاً تركهن للخدمة في المستقبل في بيوت الأسرة الحاكمة. وكان يهدف فرعون من وراء عمله هذا القضاء على موسىمن حين الولادة،
حيث رأى في منامه أن شعلة من النار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع البيوت في مصر، ولم تترك بيتاً لأحد من الأقباط إلا أنها لم تمس بيوت بني إسرائيل بسوء، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك، فقالوا له: يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة. ولعل ورود جملة ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ بعد جملة ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ يوحي بان الفراعنة اتخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء لئلا يستطيع هؤلاء أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب ليكبروا ثم يخدمن في بيوتهم.
ويبدو أن مشروع قتل الأبناء واستحياء النساء كان قائماً حتى بعد ظهور موسى صلى الله عليه وآله.
ومجيئه إلى الفراعنة كما يستفاد من قوله تعالى ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾. المؤمن / 25.
وجملة ﴿يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾. في الآية يظهر منها أنهم كانوا يصرون على إبقاء البنات والنساء. أما لكي يخدمن في بيوت الأقباط. أو للاستمتاع الجنسي. أو لكلا الأمرين معاً، وفي آخر جملة من جمل الآية تأتي الآية بتعبير جامع يلخص كل مظاهر طغيان وبغي وجور فرعون فتقول ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾. وباختصار فان عمل فرعون يتلخص في الفساد والإفساد في الأرض فاستعلاؤه واستكباره كان فساداً. واستبداده فساد آخر. ومطاردته للناس وتعذيبهم واستضعافهم وذبح أبناءهم واستحياء نساءهم فساد ثالث. وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرة أخرى أيضاً كما سيتضح من خلال ما سيأتي.
* ادعاؤه الربوبية:
لقد ظل فرعون يصعد سلم الكبرياء حتى وصل إلى نهايته وتجاوز هذه النهاية وأعلن انه هو الرب الأعلى.. وانه لا اله سواه. وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾. النازعات / 22 – 26. ففرعون لم يكتف بتكذيبه لموسى وعصيانه له، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف بوجهها، بل تعدى وتجاوز الحدود بصورة مفرطة جداً. وافترى على الله وعلى نفسه بأقبح ادعاء حينما ادعى لنفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته. نعم فحينما يقبع المتجبر في مركب الغرور. وحينما تلفه أمواج الأنانية المفرطة. حينها.. سيجرفه تيار الإفراط لان يدعي لنفسه الربوبية. بل وتجره فقدان البصيرة. وانحسار الفطرة بين ظلمات الأنانية ليدعي في نهاية المطاف الربوبية لنفسه. ومن أجل إن لا يخدش معتقدات الناس فقد اخبرهم بأنه لا يعارض ما لهم من أصنام يعبدونها، ولكنه فوقها جميعاً فهو المعبود الأعلى.
ولعل من المفارقات أن فرعون نفسه كان أحد عبدة الأصنام كما يستفاد من قوله تعالى ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ﴾ الأعراف / 127 فادعاؤه بأنه الرب الأعلى قد سرى حكمه حتى على ربه ليكون عبداً له! وهكذا هو هذيان الطواغيت والفراعنة. وقد ادعى فرعون بأكثر من رب الأرباب ليضيف إلى هذيان الطغاة حماقة. حينما خاطب قومه فيما يحكيه عنه القرآن ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾!. وعلى أية حال، فقد حل بفرعون منتهى التجبر والتكبر والطغيان، فأخذه الله جبار السموات والأرض أخذ عزيز مقتدر: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ النازعات / 25 – 26. نعم فقد أُغرق فرعون، وزال ملكه، وسقطت دولته.
وصار درساً شاخصاً لكل الطواغيت والجبابرة، وعبرة لمن سار على نهجه الفاسد في كل عصر ومصر. ولا يجني من سار على خطاه سوى ما جنت به يداه. تلك هي سنة الله ولا تغيير ولا تبديل لسنته جل شأنه.
* سياسة تفريق الناس:
فان فرعون ومن اجل تقوية قواعده الاستكبارية. فقد أقدم على تمزيق صفوف الناس والتفريق بين أهل مصر ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾. وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ وعليها يستند المستكبرون في حكمهم ونفوذهم وسيطرتهم على الشعوب والجماعات السياسية. فالسلطة المستكبرة لا تسيطر على الأكثرية إلا بالخطة المعروفة. فرق تسد وإتباع سياسة الاستفراد مع التكتلات والتجمعات المعارضة أو المناوئة. فهم يخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض. ويستوحشون من توحيد الكلمة والموقف. ولذلك يلجأون إلى هذه السياسة التي تتكفل بقاءهم ونفوذهم وهيمنتهم على الشعوب. تماماً كما صنعه فرعون مع أهل مصر. وكما يصنعه الفراعنة والطواغيت في كل عصر ومصر.
فقد قسم فرعون أهل مصر إلى طائفتين:
الأقباط والأسباط، فالأقباط هم أهل مصر الأصليون الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة. وكانت في أيديهم مقدرات الدولة وأجهزة الحكومة. والأسباط هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم وفي قبضة الأقباط. وكانوا محاطين بالفقر والحرمان. ويحملون أشد الأعباء من دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعاً. إن القرآن الكريم يرسم في مواجهة الفرعونية واستكبارها أملاً أمام كل المستضعفين في الأرض بقوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾. ولا خلف لوعد الله أليس الصبح بقريب؟.