إن الإمام عَلِيٌ (ع) يُحذِّر من الانغماس في تعقيدات الحياة وشؤونها السطحية على حساب الأهداف الجوهرية، فعندما ينشغل الإنسان بمطاردة الظروف، أو القلق بشأن المستقبل، يُصبح أسيراً لذلك، ويفقد السيطرة على حياته.
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ تَشاغَلَ بِالزَّمانِ شَغَلَهُ”.
معادلة أخرى يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع) تُعبر عن مفهوم فلسفي عميق مرتبط بإدارة الإنسان لوقته وحياته، “التشاغل” يعني الانشغال عن الأمور المُهمّة بأشياء ثانوية أو غير مجدية، ويُقصَد به الانغماس في الشؤون اليومية أو المادية التي تجعل الإنسان غافلًا عن أهدافه الكبرى ومسؤولياته.
و”الزمان” في السياق هنا يُشير إلى أحداث الحياة وتقلباتها، أو الوقت الذي يمُرُّ دون أن يُستثمَرَ بشكل جيد، وقد يُفهم “الزمان” كرمز للظروف والعوامل الخارجية التي تؤثِّر في حياة الإنسان.
الإمام عَلِيٌ (ع) يُحذِّر من الانغماس في تعقيدات الحياة وشؤونها السطحية على حساب الأهداف الجوهرية، فعندما ينشغل الإنسان بمطاردة الظروف، أو القلق بشأن المستقبل، يُصبح أسيراً لذلك، ويفقد السيطرة على حياته.
ومِمّا لا شَكَّ فيه أن الإمام (ع) لا يدعو إلى تجاهل الزمان أو عدم التعامل مع متطلباته، فقد جاء التأكيد في الروايات الشريفة على ضرورة مواكبة الزمان وأهله، وما يجري فيه من أحداث، وفهمها بعمق، وفهم خلفياتها وأسبابها، وفهم نتائجها وآثارها، فقد رُوِيَ عنه (ع) أنه قال: “حَسْبُ المَرءِ مِن عِرفانِهِ، عِلمُهُ بِزَمانِهِ” وقال: “أعرَفُ الناسِ بالزّمانِ، مَن لَم يَتَعَجَّبْ مِن أحداثِهِ”.
ورُوِيَ عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: “العالِمُ بِزَمانِهِ، لا تَهجُمُ علَيهِ اللَّوابِسُ” فحَرِيٌ بالإنسان أن يعرف زمانه، وأن يطَّلِع على ما يحدث فيه، وأن يمَيِّز بين الحق وأهله، والباطل وأهله، كي لا تلتبِس عليه الأمور، ويعرف ماذا يجب عليه، وماذا لا يجوز أن يكون منه، من خيارات وقرارات، وما يتبناه من آراء ومواقف.
وعليه: فإنَّ الإمام(ع) يُحذِّر من جعل الزمان محوراً للحياة على حساب الغايات الحقيقية، فالتعامل الحكيم مع الزمان يتطلب: إدراك أن الزمان وسيلة وليس غاية، والتركيز على القيم والمبادئ الكبرى، والتوازن بين متطلبات الحياة والأهداف الأخروية.
إذا تشاغلنا بالزمان بالمعنى الذي بيَّنته للتَّوِّ فإنه يشغَلُنا بالقشور والأمور والتافهة وغير الضرورية، ويستنزف وقتنا -وهو أغلى ما نملك- في أمور سطحية لا طائل منها بل يكون مردودها علينا سلبياً جداً، مثل القلق على الأحداث اليومية البسيطة، أو الانشغال بما قال فلان وفلان، وما اشترى فلان، وما باع فلان، أو الانشغال بالسَّعي وراء المظاهر المادية الزائفة، ومنافسة الآخرين فيها، أو الانكباب على جمع المال على حساب الواجبات الأخرى، أو التَّرَف، أو الاهتمام بالمناصب العليا والجاه الاجتماعي، فإن ذلك يؤدّي بنا إلى فقدان التركيز على الأمور المهمة، كشاب يقضي ساعات طويلة على وسائل التواصل الاجتماعي، منشغلًا بمتابعة حياة الآخرين بدلًا من تطوير ذاته، أو رجل ينشغل يومياً بمراقبة الآخرين ماذا ربحوا، وماذا خسروا، دون أن يضع لنفسه هدفاً جليلاً يسعى إلى تحقيقه، أو يستثمر وقته في عمل يعود بالنفع عليه، فعندما يُصبح الانشغال بأهل الزمان هدفًا بحد ذاته، يفقد الإنسان البوصلة ويُهدر طاقته دون تحقيق غاية واضحة.
إن ذلك وسواه يُخَلِّفُ آثاراً نفسية عميقة إذ يتسبب لنا بالقَلَق والتوتُّر الدائِمَين، والتَّشتّت بين المَهامُ، دون إنجاز حقيقي، أو تطوُّر في حياتنا.
وإذا كان من توصيات عملية في هذا المضمار، فمن المهم أن يكون المَرء عالماً بزمانه، واضعاً لنفسه أهدافاً كبرى يسعى إلى تحقيقها، متجنِّباً كل ما يشغله عنها، جاعلاً القِيَم والمبادئ الأخلاقية السامية أساساً لحياته، موقِناً أن العمر محدود فيستثمره بالخير وما يرجع عليه بالنفع في دنياه وفي آخرته، موازنا في أعماله بين الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث الشريف: “اِعْمَلْ لِدُنْياكَ كَأَنَّكَ تَعِيْشُ أَبَداً، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوْتُ غَداً”.
بقلم الکاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي