الرضا بالقضاء هو التسليم لأمر الله وقبوله بقلب مطمئن دون اعتراض، وهو من أعلى مراتب الإيمان، وهو يتضمّن القناعة بما قدَّره الله للإنسان.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ رَضِيَ بالقَضاءِ اسْتَراحَ”.
تُعَدُّ مسألة القضاء والقدر من القضايا العَقَدية التي شغلت عقول المفكرين والفلاسفة والمتكلمين، وهي تحتل مكانة خاصة في الفكر الإسلامي، لا سيّما في مدرسة أهل البيت الأطهار (ع) حيث دَعَوا إلى الإيمان بالقضاء والقدر، والتسليم الكامل لإرادة الله تعالى وقضائه، والتعامل معهما بوعي وبصيرة.
ولكي تتضح هذه المسألة الشائكة لا بد لي أولاً من تعريف كل من القضاء والقَدَر:
القضاء في اللغة يعني: الحكم والإنهاء والإتمام، وفي الاصطلاح: هو الحكم الإلهي الحتمي الذي يقع على العباد، سواء كان في خلقهم أو أرزاقهم أو آجالهم.
والقَدَر في اللغة يعني: التقدير والمقدار، وفي الاصطلاح: هو تدبير الله للأشياء وتقديرها وفق علمه الأزلي وحكمته.
وتؤمن مدرسة أهل البيت الأطهار (ع) بأن القضاء والقَدَر لا يعنيان الجبر، وإنما هناك مساحة للاختيار الإنساني، وفقاً للقاعدة العقائدية التي أرساها الإمام جعفر الصادق (ع): “لا جَبْرَ ولا تَفْويْضَ، بَلْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ”. وتعني هذه القاعدة أن إرادة الإنسان وسعيه وجِدَّه وهِمَّته ركن أساسي من أركان تقدير الله له، في الأمور التي تقع في دائرة اختياره وإرادته وتأثيره، أما الأمور التي لا تقع ضمن هذه الدائرة فأمرها إلى الله تعالى وعليه أن يذعن لها، ويرضى بها.
والرضا بالقضاء هو التسليم لأمر الله وقبوله بقلب مطمئن دون اعتراض، وهو من أعلى مراتب الإيمان، وهو يتضمّن القناعة بما قدَّره الله للإنسان، خيراً كان أم شراً، وهذا الرضا لا يعني الاستسلام السلبي، بل هو قبول إيجابي ينبع من الإيمان بأن الله تعالى هو الحكيم العليم الخبير، وأن كل ما يقدِّره له حكمة ومصلحة.
وقد أشارت روايات كثيرة إلى إيجابيات الرضا بقضاء الله وقبوله دون جزع، أو سُخط، وأن الذي يرضى به يحظى بالراحة النفسية، بينما الذي يسخط على قضاء الله (أعاذنا الله من ذلك) فإنه لا يغير من الأمر شيئاً، ولا يردُّ قضاء الله، بل يزيد همُّه وغمُّه وحزنه، وقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: “مَنْ رَضِيَ بِالقَضَاءِ جَرى عَلَيْهِ القَضَاءُ وَهُوَ مأَجُورٌ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بالقَضَاءِ جَرى عَلْيْهِ القَضَاءُ وَهُوَ مَثْبورٌ”.
ورُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ”. ومن المعلوم أن ثقل القضاء وصعوبته أو خِفَّته وسهولته نابع من نظرة الإنسان إليه وتعامله معه، فمن يُعَظِّم المصيبة تعظم عليه، ومن يهوِّنها تهون عليه.
إن الرضا بقضاء الله يُطمئن النفس، ويريح القلب، وبه يتحرَّر الإنسان من القلق والتوتر، ويتجنَّب الهموم التي تنشأ عن الإعتراض على قَدَر الله وقضائه. قال تعالى: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” ﴿التغابن: 11﴾ هذه الآية تشير إلى أن كل مصيبة تحدث بإذن الله، ووفق القوانين والأسباب التي جعلها الله في الكون وفي الحياة الإنسانية، ومن يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنه من قضاء الله يطمئن قلبه، وتقل وطأة المصيبة عليه.
ومِمّا لا شكَّ فيه أن الرضا بقضاء الله ينشأ من اليقين بأن الله تعالى يُحبُّ خلقه، ويُحبُّ عبده خاصة، ويريد له الخير ولا يريد له الشَّرَّ أبداً، وحين يقضي له قضاءاً فلمصلحة أكيدة، قد تكون تلك المصلحة دنيوية وقد تكون أخروية، وقد تكون مصلحة معنوية وقد تكون مصلحة مادية، أو ليدفع عنه مفسدة قادمة لا يعلمها العبد لأنه أسير حاضره ولا يعلم عن المستقبل شيئاً، لقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ”.
خلاصة القول: إن الرضا بالقضاء ليس استسلاماً سلبياً، وليس سلباً لإرادة الإنسان، بل هو تسليم لحكمة الله مع الإيمان بأن ما يقدّره هو خير للإنسان، وهذا يجلب له السكينة والطمأنينة ويفتح عليه أبواب الراحة النفسية والسعادة الحقيقية.