تتضمن مناسك الحج أعمالاً وسلوكيات متواضعة جداً أمام سبحانه تعالى، ولا توجد عبادة أخرى يظهر فيها مثل هذه العلامات من التواضع.
يعتبر الحج أحد أهم أركان الدين الإسلامي، وله مكانة عالية جداً في التعاليم القرآنية والأحاديث النبوية. ويرحل المسلمون من جميع أنحاء العالم إلى مكة المكرمة في وقت معين من العام لأداء فريضة الحج كواجب ديني.
وبالإضافة إلى البعد الديني فإن هذه الفريضة تعد رمزاً لوحدة الأمة الإسلامية، حيث يتعبد جميع الناس بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الوضع الاجتماعي أو الجنسية لله في ثوب الإحرام الموحد.
الحج فرصة للتقرب من الله، مراجعة الأعمال، وتجديد الالتزام بالقيم الأخلاقية والدينية. وهو في الوقت نفسه رمز لاتباع نهج الأنبياء الإلهيين وتجديد الإيمان بمبادئ الإسلام.
إن جاذبية الحج مثيرة لكل مؤمن، لما له من جوانب روحية واجتماعية وتاريخية مهمة، فضلاً عن التواجد في الأماكن المقدسة التي تذكرنا بحياة النبي إبراهيم وإسماعيل ونبوتهما واختبارهما عليهما السلام.
يقول أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في الخطبة الأولى من نهج البلاغة:
“وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَيَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ“.
إن التشبيه بالأنعام إما أن يكون بسبب التواضع الباهر الذي يتحلى به حجاج بيت الله الحرام، أو بسبب قلقهم وضيق صبرهم عند التوجه إلى الكعبة والطواف بها. ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه التعبيرات لها معنى مختلف في العادات العربية عنه في بالنسبة لعاداتنا.
إن التشبيه بالحمام هو أن هذا الطائر هو رمز للحب والسلام والهدوء والأمان وصوت طنين ممزوج بالشوق. ولقد دعا الله الحجاج إلى مأدبته العظيمة، وهم بقلوب مليئة بالشوق ورؤوس مليئة بالحب والرغبة إليه، يتجهون نحو بيته ويجدون أنفسهم في قربه وهم يقولون: “لبيك اللهم لبيك”. وأول آثار ذلك ظهور براعم التقوى والروحانية في قلوبهم ونفوسهم.
ثم يتناول أمير المؤمنين (عليه السلام) فلسفة من فلسفات الحج فيقول:
“وَجَعَلَهُ سُبْحانَهُ عَلامَةً لِتَواضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَاِذْعانِهِمْ لِعِزَّتِهِ“.
لأن مناسك الحج تتضمن أعمالاً وسلوكيات متواضعة جداً تؤدى أمام الله، ولا توجد عبادة أخرى يظهر فيها مثل هذه العلامات من التواضع. إن لبس الإحرام هو أهم رمز لهذا التواضع، حيث يخلع المسلم كل ثيابه المعتادة ويدخل الأرض المقدسة مرتدياً قطعتين بسيطتين فقط، وكأنه لم يبق له من كرامة الدنيا شيء.
إن هذا الفعل يذكّر الإنسان بأنه لا يملك شيئاً أمام الله جل جلاله، وأن كل ما يملكه هو أمانة إلهية فقط. إن الوقوف في عرفات ومنى لحظات من قمة التواضع والرثاء يتجاوز فيها الإنسان كل التعلقات الدنيوية ويلجأ إلى بحر النعم الإلهية اللامتناهي.
إن القناعة، الطواف حول بيت الله الحرام، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في عرفات والمشعر ومنى، ورمي الجمرات، وحلق الرأس، كلها أعمال تواضع أمام عظمة الله، وتحطم الكبر والغرور والتكبر لدى كل إنسان.
تهدف هذه المناسك إلى فصل الإنسان عن ارتباطاته الدنيوية وجعله يدرك صغره وعجزه أمام الله. ومن خلال التخلي عن كل الارتباطات الدنيوية والانتماء إلى مجتمع كبير، دون التمييز بين الغني والفقير، أو الأبيض والأسود، يرى الحاج نفسه جزءًا من كل واحد.
وبالإضافة إلى التواضع والعبودية، فإن هذه الأفعال تعزز أيضًا روح التعاطف والمساواة وتذكر الناس بالحياة الآخروية ومسؤوليتهم أمام الله سبحانه وتعالى.
ففي واقع الأمر يعتبر الحج رحلة تربوية قصيرة ولكنها عميقة جداً، تحرر الإنسان من الأنانية وتقوده إلى الكمال الروحي والأخلاقي.