لقد أمر القُرآن الكريم بعدم مجادلة أهل الكتاب (الذين يختلفون معنا في العقيدة أو بعضها) إلا بالحكمة والموعظة الحَسَنَة.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ ناقَشَ الإخْوانَ قَلَّ صَديقُهُ”
معادلة تكشف عن أثر المجادلات العقيمة على تماسك روابط الأخوة والصداقة والمحبَّة بين الناس، فالنقاش الذي يغلب عليه التمسُّك بالرأي والاستقصاء عن العيوب والتتبع الدائم للأخطاء، وإثارة الخلافات، يفسد الألفة ويقطع المودة، ولذلك يحذِّرنا الإمام أمير المؤمنين (ع) من إدامة هذا النوع من النقاش مع الأخوة والأصدقاء، فقد رُوِيَ عنه (ع) أنه قال: “مَنْ اسْتَقْصَى عَلَى صَدِيْقِهِ انْقَطَعَتْ مَوَدَّتُهُ”.
ومِمّا لا جدال فيه أن الإكثار من الجدال، والتمسُّك بالرأي الواحد، والإكثار من انتقاد الآخر ومحاسبته الدائمة على هفواته وزلّاته، ورفض الاستماع إلى رأيه يولِّد لديه شعوراً عارماً بالسُّخط والاستياء، وشعوراً بالاحتقار والمهانة والتهميش، مِمَّا يحمله على الابتعاد، فلا تستقيم المودَّة والمحبة في ظِلِّ هذا السلوك السقيم الذي يتعارض مع مبدأ الصداقة والأُخُوَّة القائمتين على المودَّة والاحترام المُتَبادَل، وقد رُوِيَ عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “الاسْتِقْصاءُ فُرْقَةٌ، والانْتِقَادُ عَدَاوَةٌ”.
لقد أمر القُرآن الكريم بعدم مجادلة أهل الكتاب (الذين يختلفون معنا في العقيدة أو بعضها) إلا بالحكمة والموعظة الحَسَنَة، فقال سبحانه: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿العنكبوت: 46﴾ إن مجادلة أهل الكتاب لا تكون إلا بالحُسنى، ومن المجادلة بالحسنى البناء على المشتركات والإقرار بها، وزيادة مساحتها بالحوار الهادئ اللّيِّن، والكلام الطِّيب الحَسَن، الذي يؤثِّر في النفوس، يتوخّى بلوغ الحقيقة لا سواها، ولا تكون المجادلة بالمشاقَّة والنزاع والنقاش العقيم الذي يتوخّى هزيمة الطرف الآخر وإقناعه أنه ليس على شيء.
وقال سبحانه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿آل عمران: 64﴾ هذا هو الإنصاف بعينه، ففي الآية الكريمة دعوة لنا جميعاً أن ندعو الآخرين إلى كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد، لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم بعضاً، وهي دعوة لا يأباها إلا مُتَعَنِّت مفسد، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم.
فإذا كان الله يدعونا إلى مجادلة الآخرين بالتي هي أحسن، وإلى دعوتهم إلى كلمة سواء، فالزوج، والابن، والأخ، والصديق أولى بذلك قطعاً، لما بيننا وبينهم من صِلات رَحِمٍ، وأخوَّة وصداقة، ومودَّة.
إن الحوار البَنَّاء يؤدّي حتماً إلى فهم مشترك، وتبادل الخبرات، في حين أن النقاش العقيم لا يؤدي إلا إلى إثارة الخلافات وتعميقها، والحوار البنّاء يقتضي الإصغاء والاحترام، في حين أن النقاش العقيم يقوم على الجدل والتمسُّك بالرأي ولو كان خاطئاً.
لذلك من الضروري جداً لمن أراد للصداقة أن تدوم وتزدهر أن يقلِّل من النقاش الحادّ ما أمكن، وأن يتجنَّبه حال الغضب والانفعال، وأن يُصغي إلى الطرف الآخر، ويمنحه الحق في التعبير عن رأيه، وأن يركِّز في النقاش على الفكرة بدل التركيز على الشخص، وأن يعترف بصحة وجهة نظر الآخر ويتقبلها إن كانت صحيحة، فباتباع هذه الأساليب، يتحوّل النقاش من سبب للتفرقة إلى جسرٍ للتقارب، وحِبالة للمودة.
بقلم الکاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي