وَبَذَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي مَرْضَاتِهِ
جاءَ في الزيارةِ الجامعةِ الكبيرةِ لأهلِ بيتِ العصمةِ والطهارةِ (عليهِمُ السلامُ): «وَدَعَوْتُمْ إِلَى سَبِيلِهِ ﴿بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾[1]، وَبَذَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي مَرْضَاتِهِ، وَصَبَرْتُمْ عَلَى مَا أَصَابَكُمْ فِي جَنْبِهِ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَجَاهَدْتُمْ فِي اللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ، حَتَّى أَعْلَنْتُمْ دَعْوَتَهُ، وَبَيَّنْتُمْ فَرَائِضَهُ، وَأَقَمْتُمْ حُدُودَهُ، وَنَشَرْتُمْ شَرَائِعَ أَحْكَامِهِ، وَسَنَنْتُمْ سُنَّتَهُ، وَصِرْتُمْ فِي ذَلِكَ مِنْهُ إِلَى الرِّضَا، وَسَلَّمْتُمْ لَهُ الْقَضَاءَ، وَصَدَّقْتُمْ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ مَضَى»[2].
منَ الصفاتِ التي يتوجَّهُ بها الزائرُ لأهلِ بيتِ العصمةِ والطهارةِ (صلواتُ اللهِ عليهِم)، بذلُهُم وعطاؤهُم في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ. والبذلُ مقابلُ المنعِ، وهوَ عطاءٌ وتقديمٌ لشيءٍ مملوكٍ من دونِ مقابلٍ، عن طِيبِ نفسٍ ورِضا.
والمبذولُ هوَ النفسُ، وبذلُها هوَ أعظمُ أنواعِ البرِّ والخيرِ؛ ففي الحديثِ: «فَوْقَ كُلِّ ذِي بِرٍّ بِرٌّ، حَتَّى يُقْتَلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِذَا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَ فَوْقَه بِرٌّ»[3].
ولكن، ما هوَ في غايةِ الأهمّيّةِ، هوَ ما وردَ في الزيارةِ من بيانِ الغايةِ من هذا الهدفِ، وهوَ مرضاةُ اللهِ. وقيمةُ ما يقدّمُهُ الإنسانُ ترتبطُ بالغايةِ، فحيثُ يكونُ الهدفُ إلهيّاً يكونُ الفعلُ كذلكَ، وسُموُّ الهدفِ يرقى بالفعلِ ليُصبحَ أعظمَ وأعظمَ.
وقد أنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ، عندما بذلَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (عليهِ السلامُ) نفسَهُ فداءً للنبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)، ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ، قولَهُ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[4].
ويتجلّى هذا الهدفُ في هذهِ الدنيا بهدايةِ عبادِ اللهِ إلى الحقِّ والهُدى؛ ولذا وردَ في الزيارةِ الجامعةِ الكبيرةِ، وفي تتمّةِ بيانِ الغايةِ من بذلِ النفوسِ: «أَعْلَنْتُمْ دَعْوَتَهُ، وَبَيَّنْتُمْ فَرَائِضَهُ، وَأَقَمْتُمْ حُدُودَهُ، وَنَشَرْتُمْ شَرَائِعَ أَحْكَامِهِ»[5].
وعنِ الإمامِ الحسينِ (عليهِ السلامُ): «اللهمَّ، إنَّكَ تعلمُ أنَّهُ لم يكنْ ما كانَ منّا تنافُساً في سلطانٍ، ولا التِماساً من فُضولِ الحُطامِ، ولكنْ لِنُرِيَ المعالِمَ من دينِكَ، ونُظهِرَ الإصلاحَ في بلادِكَ، ويأمَنَ المظلومونَ من عبادِكَ، ويُعمَلَ بفرائضِكَ وسُننِكَ وأحكامِكَ»[6].
والأئمّةُ (عليهمُ السلامُ) هُم مظهرُ الرحمةِ الواسعةِ؛ نظرتُهُم إلى كلِّ ضالٍّ على أنَّهُ خسارةٌ على مستوى المشروعِ الإلهيِّ؛ ولذا يظهرُ الحِرصُ المستمرُّ منهم لهدايةِ عبادِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وهذهِ الغايةُ تتماهى معَ الغايةِ الإلهيّةِ؛ أيْ تُصبحُ الغاياتُ البشريّةُ غاياتٍ إلهيّةً، وقد وردَ في الروايةِ عنِ الإمامِ الباقرِ (عليهِ السلامُ): «إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِه مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَه وزَادَه فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ، فَوَجَدَهَا؛ فَاللَّه أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِه مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِه حِينَ وَجَدَهَا»[7].
وهذا يعني أنَّ على المؤمنِ أن يسعى لِتكونَ الغايةُ من كلِّ ما يقومُ بهِ تحصيلَ رضا اللهِ عزَّ وجلَّ، والوصولَ إلى مقامِ حزبِ اللهِ: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[8].
ختاماً، نُعزّي مولانا صاحبَ العصرِ والزمانِ (عجّلَ اللهُ تعالى فرجَهُ الشريفَ)، ووليَّ أمرِ المسلمينَ، والمجاهدينَ جميعاً، بذكرى عاشوراءِ الإمامِ الحسينِ (عليهِ السلامُ).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة النحل، الآية 125.
[2] الشيخ الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج2، ص612.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص348.
[4] سورة البقرة، الآية 207.
[5] الشيخ الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج2، ص612.
[6] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص239.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، 435.
[8] سورة المجادلة، الآية 22.