لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من أُفق المجد العلوي مرتضعاً ثدي البسالة متربياً في حجر الخلافة وقد ضربت فيه الإمامة بعرق نابض فترعرع، و مزيج روحه الشهامة والاباء والنزوع عن الدنايا و ما شوهد مشتداً بشبيبته الغضة الا وملء اهابه إيمان ثابت و حشو ردائه حلم راجح ولب ناضج و علم ناجع فلم يزل يقتص أثر السبط الشهيد(ع) الذي خلق لأجله و كون لأن يكون ردءاً له في صفات الفضل و مخائل الرفعة و ملامح الشجاعة والسؤدد والخطر فان خطى سلام الله عليه فإلى الشرف و ان قال فعن الهدى والرشاد و ان رمق فإلى الحق و ان مال فعن الباطل و ان ترفع فعن الضيم و ان تهالك فدون الدين.
ولد العباس ابن الامام علي بن ابي طالب(ع) و امه ام البنين بنت خالد بن حزام الكلابية و اسمها فاطمة في الرابع من شهر شعبان سنة 26 من الهجرة بالمدينة المنوره. و يكنى بابي الفضل و يلقب بالسقاء و قمر بني هاشم و هو صاحب لواء اخيه الحسين (ع) في كربلاء.
وكان العباس و سيماً جميلاً يركب الفرس المطهم و رجلاه يخطان في الارض. نشأ أبوالفضل العباس في بيت الإمامة الإلهية و ترعرع في أكنافها، و تربى في مدرسة أبيه أمير المؤمنين(ع) الذي هو باب مدينة علم الرسول الأعظم (ص) و ظل ربيب ذلك البيت الرفيع مع أبيه طيلة أربعة عشر عاماً، في ذلك البيت.
بعد وفاة الزهراء (سلام الله عليها)، رغب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) أن يتزوج امرأة تلد له ولداً يجاهد في سبيل الله، فطلب من أخيه عقيل بصفته عارفاً بالقبائل و أنسابها، أن يختار له زوجة تتمثل بالخصال الفاضلة و تنفرد بالأوصاف الكاملة، حتى تلد له ولداً يكون له عوناً و مساعداً لأخيه الحسين (ع) يوم الطف. فأشار عقيل على الإمام علي بالزواج من فاطمة بنت حزام بن خالد وقال له: ليس في القبائل أشجع من آبائها المعروفين بالفروسية، فهي امرأة صالحة من الفاضلات و ذوات الشرف والحشمة، تتصف عشيرتها بالنجابة والشجاعة فكان أخوال فاطمة بنت حزام معظمين لدى العشائر العربية و مقربين من الملوك والأشراف معروفين بالشجاعة والفروسية، منهم أبو براء عامر بن مالك الملقب ب(ملاعب الأسنة) لشجاعته و فروسيته، و عامر بن الطفيل بن مالك من أشهر فرسان العرب بأساً و نجدة من أخوال العباس عروة الرحال الوافد على الملوك.
تم زواج أمير المؤمنين بها فولدت البنين الأربعة و هم: العباس، و عبدالله، و جعفر، و عثمان فلقبت بأم البنين، وكلهم استشهدوا في يوم عاشوراء، وقفوا مواسين أخاهم الحسين مدافعين عن حوزة الإسلام والتعاليم الإسلامية المحمدية.
و اعتبر موقف العباس يوم الطف كموقف أهل بدر الذين جاهدوا المشركين من قريش، فكان نعم الأخ المواسي لأخيه و نعم الصابر المجاهد المحامي الناصر. فقد حامى عن الدين الحنيف و ذاد عن حرم الحسين (ع)، و أجاب طاعة ربه وزهد في الدنيا فنال الدرجة الرفيعة والمقام المحمود بما صبر واحتسب و هو على بصيرة من أمره، فاقتدى بالنبيين و اتبع سبيل الصالحين.
كانت شخصيته مهيبة كما رباه أبوه عليُّ شجاعاً مقداماً لا يخشى الجيوش بكثرتها، كيف لا يكون كذلك و هو ابن علي الكرار صاحب الجهاد و ارفع لواء الإسلام الذائد عن الرسول يوم بدر و حنين واحد وكل المعارك والغزوات، فكان أبو الفضل العباس (ع) كذلك هو مؤسس الجود والإباء، فكرم العباس و سخاؤه يضرب به المثل، وقد وردت حكايات كثيرة في كرمه وجوده، ولذا عرف بأبي الفضل وفي ذلك قال الشاعر السيد راضي السيد صالح القزويني البغدادي قصيدة مشهورة له:أبا الفضل يا من أسس الفضل والإبا ، أبى الفضل إلا أن تكون له أبا و هو الفضل العظيم العميم الذي لا يحده حدّ ولا يبلغه وصف، وله المجد والسؤدد، فقد بارز يوم كربلاء و حمل السقاء وكشف الأعداء، و من ألقابه السقّاء أو ساقي عطاشى كربلاء وكبش الكتيبة و قمر العشيرة و قمر بني هاشم و بطل العلقمي والعميد أو عميد العسكر وحامل لواء الحسين و حامي الظعينة، كل هذه الألقاب متداولة بين ألسن الناس، و هي مشتقة من أفعاله الكريمة و خصاله الحميدة.
والعباس فرع من تلك الشجرة الوارفة الظلال المثمرة اليانعة، و غصن من تلك الدوحة المحمدية الباسقة التي تفيأ بظلالها المسلمون و قوي بها الإسلام.
كان العباس شجاعاً مقداماً في الحرب، اجتمعت فيه مزايا الكمال و حاز جل الفضائل، قال السيد جعفر الحلي: بطل تَورث من أبيه شجاعةً فيها أنوف بني الضلالة تَرغم جمع الله فيه صفات الجلالة من بأس و شجاعة و إباء و نجدة و خلال الجمال والسؤدد والكرم و كمال في الخلق و عطف على الضعيف كل ذلك مع البهجة في المنظر و وضاءة في المحيا.
روى سبط بن الجوزي عن هشام بن محمد عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي قال: لما أوتي بالرؤوس إلى الكوفة و إذا بفارس أحسن الناس وجهاً قد علق في لبان فرسه رأس غلام أمرد كأنه القمر في ليلة تمامه والفرس يمرح فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض فقلت: رأس من هذا؟ قال: رأس العباس بن علي قلت: و من أنت؟ قال: أنا حرملة بن كاهل الأسدي، فلبثت أياماً و إذا بحرملة و وجهه أشد سواداً من القار قلت: رأيتك يوم حملت الرأس و ما في العرب أنضر وجهاً منك ولا أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك فبكى وقال والله منذ حملت الرأس و إلى اليوم ما تمر عليَّ ليلة إلا واثنان يأخذان بضبعيّ ثم ينتهيان بي إلى نار تؤجج فيدفعانني فيها و أنا أنكص فتسفعني كما ترى ثم مات على أقبح حال.
وصرح عدد من أرباب السير أنه كان يعرف ب(كبش الكتيبة)، و هو لقب اختص به دون سائر شهداء كربلاء، وقد خصه به أخوه الحسين (ع) وذلك أنه أتاه يطلب منه الرخصة للهجوم على جيوش أهل الكوفة المحيطة به. وقد أكثر الشعراء في تأبينه من ذكر هذا اللقب فقال بعضهم بلسان حال سيد الشهداء الحسين (ع):
عباس كبش كتيبتي وكنانتي وسري قومي بل أعز حصوني
وقال الأزري (رحمه الله):
اليوم بان عن الكتائب كبشها اليوم فلَّ عن البنود نظامها وكان يلقب أيضاً ب(حامي الظعينة) و هو لقب مشهور شائع إطلاقه على أبي الفضل العباس ابن أمير المؤمنين (ع) ومن نعوته السائرة، قال السيد جعفر الحلي: حامي الظعينة أين منه ربيعة أم أين من عليا أبيه مكرم ، و من ألقابه أيضاً أنه السقّاء أو ساقي عطاشى كربلاء كما تتفق بذلك الروايات المتعددة، إذ لم يكن ذلك بجديد، فقد فجر الله لعبد المطلب عيناً من الأرض الصماء، و نبوع العين لرسول الله (ص) بسوق ذي المجاز، و ظهور العين لأمير المؤمنين علي (ع) في مسيره إلى صفين، و نبوع العين للحسين (ع) يوم كربلاء، كذلك كان العباس.
إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر فسقا عطاشى كربلاء أبوالفضل فصار لأبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب (ع) حرم طاهر و غرف يلوذ بها المؤمنون و يلجأ إليها الداعون إلى الله سبحانه، وصار له مشهد يشهد به الناس كما له مشهد يشهده الأبرار المتقون، كما ورد في زيارته (ع) عن الإمام الصادق (ع) يقول بشهادته: (و جعل روحك مع أرواح السعداء و أعطاك من جنانه أفسحها منزلاً وأفضلها غرفاً و رفع ذكرك في عليين و حشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين).. إلخ. تلك هي مكانة العباس ومنزلته في الدنيا والآخرة انفرد بها عن بقية الشهداء.