تمهيد
قد وضع الشرع المقدس آداباً كثيرة للطعام وكما تقدم معنا من أن الأحكام الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد، فإن للآداب التي وضعها الله سبحانه وتعالى للمائدة وكيفية الأكل والشرب منافع كثيرة، منها ما كشفه العلم والطب الحديث ومنه ما لم يعلم حتى الآن. إلا أن اعتقادنا بأن كل الأمور التي أمر الله بها لا بد وأنها تصب في مصلحة العباد، وهو إيمان تعبدي يستحق الإنسان عليه الأجر من الله تعالى.
وسنتحدث في ما يلي عن بعض الآداب التي وردت في الروايات الشريفة أو نقلت في سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل البيت عليهم السلام لعلّ الله تعالى يوفقنا للعمل بهداهم إنه الموفق لكل خير.
فوائد قلة الطعام
إن قلّة كمّية الطعام التي يتناولها الإنسان لها الدور الأكبر في الحفاظ على صحته الجسدية, كما أنّ لها من الفوائد الجمّة الكثيرة للنفس الإنسانيّة، ويكفي في مجال أهمّيتها أن نلتفت إلى كثرة الروايات التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام, والتي تحبذ قلّة الأكل وتذكر فائدته، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: “قلّة الغذاء أكرم للنفس وأدوم للصحّة”*.
وعن الإمام علي عليه السلام:“من قلّ طعامه قلّت آلامه”1. ولعلّ ذلك لأنّ كثرة الأكل والتكثير من الأصناف المأكولة تربك المعدة التي تعتبر من أكثر الأعضاء حساسيّة وتسبباً للأمراض في الجسم، وكذا الحفاظ عليها ممّا يجلب الراحة للإنسان, ويكفي في أهميّة قلّة الطعام ما نراه من السلبيات الناتجة عن الإكثار من تناول الأطعمة وأهمّها مرض السمنة الذي أسماه البعض بمرض العصر، إذ إنّ الكثير من الناس يعانون من مشاكل السمنة وأمراض الكولسترول وغيرها وقد ورد في الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام:“لو أنّ الناس قصدوا2 في الطعم لاعتدلت أبدانهم”3.
مضار كثرة الطعام
إن الإكثار من الطعام ليس من الأمور المحمودة شرعاً، فقد ورد في الروايات التأكيد على كراهية ذلك، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: “كثرة الأكل من الشره، والشره شرّ العيوب”4.
ولعل كثرة الطعام تتسبب بمردود عكسي على الإنسان، بسبب حساسية المعدة، حتى ينطبق عليه حينئذٍ الحديث المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام: “كم من أكلة تمنع أكلات”5.
ولأجل هذه السلبيات المادية، وكذلك السلبيات المعنوية التي تتسبب بها التخمة والشره، بحيث تؤثر على القلب والتوجه، كانت دعوة الأئمة عليهم السلاملنا بأن لا نأكل إلا حينما نشعر بالجوع، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم:
“كُل وأنت تشتهي، وأمسك وأنت تشتهي”6.
من آداب المائدة
الوضوء قبل الطعام وبعده
إن الشريعة الإسلامية أعطت أهمية خاصة للنظافة, ومن الأمور التي أمرتنا بالتأدب بها: الوضوء وغسل اليدين قبل الطعام وبعده, فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم قال:“الوضوء قبل الطعام وبعده ينفي الفقر”7.
وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلّم قال:“إذا توضأت بعد الطعام فامسح عينيك بفضل ما في يديك فإنه أمان من الرمد”8.
ومن آداب الوضوء الذي يسبق الطعام أن لا يستعمل الإنسان منديلا (منشفة) ليجفف به يديه قبل الطعام، فقد ورد في الرواية عن صفوان الجمال قال:“كنا عند أبي عبد الله عليه السلام فحضرت المائدة فأتى الخادم بالوضوء فناوله المنديل فعافه، ثم قال: منه غسلن”9.
وأما في الوضوء الذي بعد الطعام فلا بأس بأن يجفف الإنسان يديه من بعده, ففي الرواية عن نزار قال:“رأيت أبا الحسن عليه السلام إذا توضأ قبل الطعام لم يمسّ المنديل وإذا توضأ بعد الطعام مسَّ المنديل”10.
البسملة والدعاء
وهي من الآداب المشهورة, وقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال:”اذكروا الله عز وجل عند الطعام ولا تلغوا فيه: فإنه نعمة من نعم الله يجب عليكم فيها شكره وحمده, أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيه”11.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال:“إذا وضعت المائدة حفها أربعة أملاك، فإذا قال العبد: “بسم الله ” قالت الملائكة للشيطان: اخرج يا فاسق فلا سلطان لك عليهم. وإذا فرغوا فقالوا: “الحمد لله” قالت الملائكة: قوم أنعم الله عليهم فأدوا الشكر لربهم. وإذا لم يقل: “بسم الله” قالت الملائكة للشيطان: ادنُ يا فاسق فكل معهم. فإذا رفعت المائدة ولم يحمدوا الله قالت الملائكة: قوم أنعم الله عليهم فنسوا ربهم”12.
ووردت التسمية على كل صنف من أصناف الطعام الموجود على المائدة, وإذا كان الشخص ممن ينسى ذلك عليه أن يعمل بما أوصى به الإمام الصادق عليه السلام فقد روي عنه عليه السلام:“أن من نسي أن يسمي على كل لون فليقل: بسم الله على أوله وآخره”13.
إطالة الجلوس
ومن الآداب أن يطيل الإنسان مكوثه أثناء تناوله للطعام وأن لا يستعجل في الانتهاء، لأن الوقت الذي يتناول الإنسان فيه قُوته لا يسأله الله تعالى عنه, فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال:“أطيلوا الجلوس على الموائد، فإنها ساعة لا تحسب من أعماركم”14.
تناول الفتات
من الآداب أن يتناول الإنسان الفتات المتساقط من الطعام, حيث ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم:“من وجد كسرة أو تمرة فأكلها لم تفارق جوفه حتى يغفر الله له”15.
ومن الثواب الذي أعده الله تعالى على هذا العمل الذي يتصوره الإنسان عملاً قليلاً، ما ورد في الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام، عن أبيه عليه السلام، عن آبائه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: ” ما سقط من المائدة مهور الحور العين”16.
فمن أحب أن يدفع مهر الحور العين قبل أن يدخل الجنة فما عليه إلا أن يستنّ بسنّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام ويقوم بهذا العمل القليل ذي الأجر العظيم.
الإفتتاح بالملح والإختتام به
ومن آداب الطعام أيضاً أن يفتتح الإنسان الطعام بتناول حبات قليلة من الملح وأن يختتم طعامه بالملح أيضاً، حيث ورد في الرواية أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم قال للإمام علي عليه السلام: “يا علي افتح بالملح واختتم به، فإنه شفاء من سبعين داء، منها الجنون والجذام والبرص ووجع الحلق ووجع الأضراس ووجع البطن”17.
أن يأكل الإنسان من قدّامه
قد جرت العادات على أن يأكل كل إنسان من أمامه أي من الطعام الذي في جهته, وكذا يعتبر العرف أن الأكل من أمام الآخرين من العادات السيئة, وكذلك الشرع أدّبنا على أن نكون كذلك ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم: “إذا وضعت المائدة بين يدي الرجل فليأكل مما يليه، ولا يتناول مما بين يدي جليسه”18.
أطعم من يشتهي طعامك
من الآداب المهمة أن يتعلم الإنسان المواساة في أمور دنياه فيواسي المسكين في طعامه إذا وقف ينظر إليه أثناء تناوله له, ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: “من أكل وذو عينين ينظر إليه ولم يواسه ابتلي بداء لا دواء له”19.
بل إن أئمة أهل البيت عليهم السلام علمونا أن نكفي حاجات حتى الحيوان إذا وقف أمامنا أثناء الطعام, ففي الرواية: “رأيت الحسن بن علي يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ألا أَرْجُمُ هذا الكلب عن طعامك ؟ قال: دعه، إني لأستحيي من الله تعالى أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه”20.
عدم الأكل باليد اليسرى
ومن الآداب التي حثت عليها الروايات أيضاً أن لا يأكل الإنسان أو يشرب بيده اليسرى, بل يباشر الطعام بيده اليمنى, ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه كره أن يأكل بشماله أو يشرب بها أو يتناول بها21.
لا تأكل أثناء المشي
والأكل أثناء المشي من الأمور التي لا يحبذها العرف, وخصوصاً للإنسان المؤمن, بل إن هذا العمل مما يسقط هيبة الإنسان واعتباره من أعين الناس، وقد ورد النهي عن ذلك في الروايات, ففي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال:“لا تأكل وأنت تمشي إلا أن تضطر إلى ذلك”22.
لا تأكل الطعام حاراً
لقد أدبتنا الشريعة على انتظار الطعام حتى يبرد، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام:”أقروا الحار حتى يبرد، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قرب إليه طعام حار فقال: أقروه حتى يبرد، ما كان الله عز وجل ليطعمنا النار، والبركة في البارد”23.
ومن الآداب الشرعية أيضاً أن لا ينفخ الإنسان على الطعام الحار حتى يبرد، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام – عن آبائه عليه السلام في حديث: ونهى أن ينفخ في طعام أو شراب24.
* الطعام والشراب, سلسلة الفقه الموضوعي , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
*- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 88
1- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 88
2- قصدوا: اقتصدوا.
3- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 89
4- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 88
5- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 89
6- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 91
7- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 140
8- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 140
9- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 140
10- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 140
11- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 140
12- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 142
13- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 143
14- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 141
15- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 141
16- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 141
17- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 142
18- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 149
19- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 92
20- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 92
21- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 142
22- علي – الطبرسي – مكارم الأخلاق – منشورات الشريف الرضي – ص 145
23- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 92
24- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى- ج 1 ص 92