أسعد الله أيامنا وأيامكم بذكرى زواج النور من النور، زواج الإمام علي من السيدة فاطمة الزهراء(عليهما السلام) والتي تصادف هذا اليوم الأول من شهر ذي الحجة، فهنيئاً لنا ولكم هذه المناسبة وكلّ عام والموالون بخير ببركة هذه المناسبة العطرة وقد سمي بزواج النورين..
بمهر قليل جداً، ووليمة عرس متواضعة، وبأمر من الله سبحانه، تم زواج النور من النور، وضم بيت الزوجية البسيط، فاطمة الزهراء إلى علي بن أبي طالب(ع)؛ ليكون مركز الإشعاع الذي سيستمر العطاء الإلهي من خلاله، فيملأ الأكوان بنور الإسلام العظيم والقرآن الكريم، بعد أن اكتمل الدين على يدي رسول الله (ص)، وتمت النعمة على المسلمين، ورضي المولى سبحانه وتعالى الإسلام ديناً للعالمين.
لقد رفض الرسول الكريم (ص) الخاطبون الأغنياء، وقُبل الزواج من الرجل الفقير مالاً، الغني نفساً وإيماناً وعلماً وخلقاً؛ لأنه المرضي عند بارئه، فلا كفء للزهراء سواه؛ وترسخت القاعدة الإسلامية في بناء الأسر المسلمة (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه).
وتقاسما العمل فيما بينهما، علي يكفيها من العمل ما كان خارج البيت، وما يستوجب مزاحمة الرجال ومخالطتهم ومخاطبتهم؛ فإن ذلك كان أبغض ما يكون إلى الزهراء، وهي التي كانت تقول: (خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال).
والزهراء(ع) تكفيه من العمل ما كان داخل البيت، مما اعتادت النساء أن يقمن به دون رجالهن، وبذلك تقر المرأة في معقلها الطبيعي، بعيداً عن عيون الرجال، مرتاحة من مخالطتهم، متجنبة أن تزاحم بمنكبيها مناكبهم.
علي (ع) يحتطب ويسقي النخل، ويستسقي الماء ويأتي بالطعام، وفاطمة تطحن وتعجن وتخبز وتغسل وتكنس وتطبخ.
وسارت الحياة بينهما سعيدة لا يعكرها الفقر الذي كانا عليه، ولا الحرمان الذي أحاط بهما من كل جانب، ولا التعب الذي كان ينالهما في كل يوم، حتى مجلت يداها من الطحن بالرحى، واغبرت ثيابها من الكنس، وأثر في صدرها الاستقاء بالقربة، وهي تداري عن علي تعبها، وتخفي عنه آلامها، ولا تشكو إليه ما بها، حباً له ورحمة به، وخوفاً على مشاعره وأحاسيسه وعواطفه، وحرصاً على رضاه.
ولم يكن علي (ع) بالذي يجهل ما بفاطمة (ع) أو يتجاهله؛ فلقد كان يحس من أعماقه ما تعانيه زوجه فاطمة من تعب، وما تلاقيه من نصب، فيسرع إلى معاونتها في أعمالها داخل البيت، كلما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وهكذا قاسمها علي (ع) العمل، وقاسمته الهموم، وذاقا معاً مرارة الصبر على المعاناة والألم والجوع، وحملا مسؤولية تربية الأولاد ومن بعدهم، وعن طريقهم، للأجيال قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، فكانا طرفي الرحى التي تدور بالحياة، وترمز إلى العلم والعمل، وتبشر بالأمل، وكانا شمس الكون وقمره، اللذين ينيران الوجود في الليل والنهار، وينثران الكواكب في سماء المجد، ويقودان سفن النجاة في البحار اللجية الهوجاء.
أيّ بيت مسلم ذلك الذي انطوى على معصومين مطهرين منزهين؟! فكانا أنموذجاً كاملاً للبيت الإسلامي المبارك.
وأيّ زوجين مسلمين كاملين ضم بيت فاطمة وعلي (عليهما السلام)، فانطوى على الصفاء والنقاء، والتفاني والاخلاص، والألفة والمودة، والتعاون والرحمة، والمحبة والطاعة؟!.
وكيف لا يكونان كذلك، وقد تربيا معاً في حجر النبوة، يشمان ريح الوحي، ويعيشان شكله وصوته، وتتلقى أذناهما الواعيتان آيات القرآن الكريم من فم رسول الله (ص)، ترنيماً وترتيلاً وصلاة، وتتردد في قلبيهما خضوعاً وخشوعاً، وترف في جوانحهما بمعانيها المقدسة، ولباب جواهرها وكنوزها، فتفيض على الجوارح علماً وعملاً وأدباً وسلوكاً، ليكون علي (ع) نموذجاً كاملاً لكل زوج مسلم، وتكون الزهراء(ع) أسوة وقدوة لكل زوجة مسلمة، ولتكون أسرتهما الصورة النموذجية الكاملة للأسرة المسلمة.
وكان من بيت الرسالة والنبوة حيث يشع نور الهداية، انتقلت السيدة الزهراء(ع) لتستقر في دار الإمامة والولاية، حيث يتلألأ الضياء الرباني والهداية المحمدية، ومن كريمة للنبي (ص) إلى قرينة للوصي(ع)، إلى أمّ مطهرة للأئمة الأطهار، والقادة البررة الأخيار(ع)، الجوهر هو الجوهر، والنور هو النور، لكنها نقلة طويلة بعيدة، من طور إلى طور، ومن دور إلى دور، إنها مسؤوليات جديدة، وتبعات جسام من نوع آخر، إنها مرحلة العطاء بعد أن تم واكتمل البناء، إنها فترة الإثمار بعد أن غطت الأزهار هام الأشجار، وانتشرت رياحينها على الأقطار.
وهكذا جاء الحسن ثم الحسين(ع) سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتا رسول الله (ص) من الدنيا، ثم تلتهما الحوراء زينب الكبرى(ع)، وزادت الأعباء على كاهل الزهراء، وبات عليها أن تتفرغ للاعتناء بالغرس النبوي المبارك، والنسل العلوي المطهر، وتربيته وتعليمه، بالإضافة إلى الاعتناء بالزوج، وتهيئة كل أنواع الراحة المتاحة -ولو نفسياً على الأقل- للزوج الودود العطوف، وللأولاد الذين سيهيئون لما رسم الله لهم من أدوار في قيادة سفينة الإسلام التي لا نجاة لمن تخلف عنها من المسلمين.
وقد مارست دورها التربوي هذا، عملياً قبل أن يكون نظرياً، وبالأفعال قبل الأقوال؛ فكانت الأم العالمة والعاملة، والقانتة العابدة، والكريمة الباذلة، والمنفقة المؤثرة -على نفسها وزوجها وأولادها- كل يتيم وأسير ومسكين وفقير، المتحملة شظف العيش ومر الحرمان، الزاهدة في الدنيا ومغرياتها، الراغبة في الآخرة ونعيمها.
هكذا كانت فاطمة(ع): ابنة داعية، وزوجة عاملة، وأماً مربية، وقانتة عابدة، وكانت إلى ذلك، المتكلمة الفصيحة، والمتحدثة البليغة، والعالمة العارفة.. وصفات أخرى لا يبلغ كنهها المتكلمون، ولا يصل إلى مداها العادّون، ومن أحق أن يكون كذلك سواها؟! وقد استقت من فيض النور الإلهي الذي خلقت منه، وحباها الله به، وقبست من شعلة النبوة التي عاشت في كنفها، ورضعت لبانها الصافي، ونهلت من نبع الإمامة، تشهد تفجره في بيتها، وتسعد بتدفقه وجريانه من بين يديها. ولم لا تكون كذلك؟ وهي بنت سيد المرسلين، وقرينة سيد الوصيين، وأم الأئمة الأبرار المطهرين، وهي في نفسها سيدة نساء العالمين..
فهي الرمز المقدس، والأنموذج الكامل، والمثال الذي يقتدى، والأسوة التي تحتذى، سلام عليها في الأولين، وسلام عليها في الآخرين.. والحمد لله رب العالمين..