أشار القرآن الكريم في معرض حديثه عن الإمدادات غير الطبيعية، إلى عاملين أيضاً:
أ- الجنود غير المرئيين.
ب- الملائكة.
يقول الله تعالى حول هؤلاء الجنود: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً﴾[1].
هذه الآية تطرح عدة احتمالات، فمن المحتمل جداً أن يكون هناك جنود غير مرئيين من غير سنخ الملائكة، لكن الاحتمال الأقوى يبقى في أنّ هذين العاملين غير الطبيعيين هما إشارة إلى مصداق خارجي واحد، وبناءً على هذا الرأي يكون المقصود من الجنود غير المرئيين نفس الملائكة، لا شيئاً آخرَ.
لكن يبقى الاحتمال الآخر وارداً، وهو أن يكون المراد من هؤلاء الجنود غير المرئيين هو نفس العواصف والرياح، لأنه وإن كانت العواصف والرياح أموراً محسوسة، لكن عندما تأتي الرياح بعنوان الجند الإلهي والمدد الغيبي لأجل هزيمة العدو وكسر قدرته لن تكون تلك الرياح في تلك اللحظات أمراً متوقعاً ومحسوباً لدى البشر.
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾[2].
ولقد صرّح القرآن الكريم في قسم آخر من الآيات، وفي مقام بيان الإمدادات الغيبية، بإرسال الملائكة. والجميل أنه قد صرح أيضاً عن أعدادهم، وكمثال نذكر هذه الآية الشريفة حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾[3].
تحدّثت هذه الآيات الشريفة عن معركة بدر التي كانت أوّل الحروب الإسلامية، وفي بدايات تشكيل المجتمع الإسلامي حيث كان المسلمون من ناحية العديد والعتاد في أضعف حالاتهم، وقد أشار القرآن أيضاً لهذه الحالة بقوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾.
ففي مثل هذه الحالة، نجد أنّه من الطبيعي أن يقلق المسلمون من مواجهة معسكر الكفّار بجيشٍ ضعيف، بل كان هذا القلق يكبر عند مشاهدتهم لجيش العدو وتجهيزاته، لأن الكفار كانوا آنذاك ثلاثةَ أضعاف جيش الإسلام.
لكن الله نادى في وسط هذه الحال رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، بأنّني سوف أمدّكم بثلاثة آلاف ملك لنصرتكم، وإذا اقتضى الأمر إرسال المزيد فسنرسله لكم، وفي نهاية المعركة كان النصر للمسلمين في معركة بدر بمساعدة المدد الإلهي بإرسال أفواج الملائكة وتحقق نصر قرّت به أعين المسلمين جميعاً.
ثم تتابع الآيات الشريفة ذِكْرَ سبب النصر والمدد الإلهي موضحة بأن الله تعالى قد كافأ المسلمين نتيجة صبرهم وتقواهم، والنكتة المهمة هنا تكمن في الإلفات إلى أن شرط النصر الإلهي كان هو ثبات المسلمين ورعايتهم لشرط التقوى، وفي صورة تحقّق هذا الشرط فإن الله تعالى وعلى أساس الحكمة والمصلحة الربانية لن يخذلهم ولن يترك نصرتهم.
السرُّ الحقيقي في امداد الغيب
إنّ التأمّل في هذه الآيات، والتدقيق في اسرار المدد الغيبي، يطلعنا على نكتةٍ بالغة الأهمية.
وهي أن المدد الغيبي الذي ساهم في تحقيق النصر للمسلمين، هو عبارة عن مساعدة وواسطة في النصر. أما النصر الحقيقي، فإن أسبابه وحصوله إنما هو إلهي المنشأ أولاً وآخراً. لذلك يجب على المجاهدين أن لا يتوجّهوا بقلوبهم وتعلّقاتهم إلى غير الله تعالى.
وهذه النكتة أكّد عليها القرآن الكريم في موارد مختلفة، وكان هذا التأكيد لأجل أن لا ينسى الناس أصل التوحيد، وأن يبقى راسخاً في أذهانهم مبدأ: (لا مؤثّر في الوجود إلا الله).
ففي الحرب لا مؤثّر حقيقي غير الذات الإلهية المقدسة، والملائكة لا يعملون إلا بأمر من الله عز وجل، ولا استقلال لهم في شيء لا في نصر المسلمين، ولا في أي أمر آخر، إذ أن كل الأمور حقيقة هي بيد الله تعالى، وتسير بأمره تبارك وتعالى.
يقول الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾[4].
فهذا المدد الغيبي بإرسال الملائكة، جعل المسلمين أكثر ثباتاً وصلابة في مواجهة أعداء الله وقد تحمّلَ الكفار هزيمة فاضحة وثقيلة، بحيث إن تعداد قتلى المشركين في تلك المعركة كان ثلاثة أضعاف شهداء جيش الإسلام، لذا يلزم على المؤمنين أن لا يعتمدوا على غير الله تعالى، وليعلموا أن النصر هو فقط بإذن الله ومن عنده.
وبملاحظة ما ذكرناه سابقاً حول الإمدادات الغيبية الإلهية نفضي إلى ثلاث نتائج عامة:
– النتيجة الأولى: أن الحكمة الإلهية تقضي بأن ينتصر الحق على الباطل، وأن إرادة الله تعالى التكوينية قد تعلّقت بهذا الانتصار النهائي للحق لذلك فهو لا محالة واقع.
– النتيجة الثانية: أنه في كثير من الآيات القرآنية كما جاء الوعد الإلهي للمجاهدين بالنعم كذلك صدر وعد إلهي آخر بانتصار أهل الحق والجهاد على الأعداء.
– النتيجة الثالثة: لقد صرّح القرآن الكريم – على الأقل – بوقوع ستة أقسام من الإمدادات الغيبية وذكرنا بعض الشواهد القرآنية على بعض تلك الإمدادات.
الربيّون عطاء حتى الشهادة، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية
[1] سورة الأحزاب، الآيات 9 – 11.
[2] سورة التوبة، الآيتان 26-25.
[3] سورة آل عمران، الآيات 123 – 127.
[4] سورة الأنفال، الآيات 9 – 12.