﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾. (الأعراف:172).
في آية الميثاق نواجه العهد الذي اخذه الله تعالى من الانسان.
ومضمون هذا العهد او الميثاق:
الاقرار بربوبية الله تعالى وبالعبودية له من الناحية التكوينية، والإذعان لطاعته تعالى من الناحية التشريعية. إنّ العلاقة العقلية واضحة بين هذين الامرين، حيث إنّ الانسان اذا ما اعترف لله تعالى بالربوبية لزمه بحكم العقل ان يلتزم بالطاعة له. والعلاقة التكوينية بين الخالق وخلقه تستتبع علاقة تشريعية بطاعة المخلوق لخالقه فيما يشرع له من اوامر ونواهٍ.
إنّ هذا الميثاق هو أساس دعوة الانبياء عليهم السلام ورسالات الله، فمهمّة الانبياء تذكير الناس بعهدهم الفطري مع الله.
ولنقرأ ما تضمنته الآية الكريمة: تتناول آية الميثاق اربع نقاط اساسية:
1- مطالبة الله تعالى، ذرية آدم عليه السلام بالاقرار بحقيقة الربوبية وسؤاله عنها ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾.
2- الاقرار التام بهذه الحقيقة ﴿قَالُواْ بَلَى﴾.
3- شهادة الانسان على نفسه ﴿شَهِدْنَا﴾.
4- احتجاج الله تعالى عليهم باقرارهم والشهادة يوم القيامة ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾.
ويختلف المفسّرون في ظرف هذا الاقرار والشهادة، فيذهب بعضهم إلى أنه كان قبل خلق آدم عليه السلام، حيث استخرج الله سبحانه وتعالى الذريّة من الظهور كهيئة الذر، وأخذ منهم العهد والميثاق، وأشهدهم على انفسهم.
ونعتقد أنّ الآية المباركة تستعرض هذا الامر بلغة الرمز، وهي لغة مألوفة في التعبير القرآني لمن يحسن فهمه. فهذا الاقرار، والشهادة قد جريا بصورة فطرية. اذ أقرّ الانسان -مخلوق الله- بالربوبية وحق الطاعة لله تعالى في عمق فطرته.
ولا يختص هذا الاقرار بمرحلة سابقة من مراحل الخلق، وانما هو أمرُ مستمرُ متواصل يجري في عمق فطرة كل انسان بصورة طبيعية، في مرحلة من مراحل النضج الفطري حيث تنفتح فطرة الانسان على الله عز وجل، لو لا ان تصدها العوامل الاخرى وتأثيراتها فتفسدها.
ان العقل يجري في هذا الاقرار والاشهاد بموجب حكم الفطرة.
والذي نود الاشارة اليه، هو أنّ الاقرار بالربوبية والطاعة، والشهادة على ذلك يجريان في فطرة وعقل كل انسان بدون استثناء، غير ان عوامل التحريف والصد تفسد على الانسان فطرته، فيحتاج إلى تذكير بمقتضيات حكم الفطرة.
ولكن الانسان في المرحلة الاولى -حيث لم تتعقد الحالة الحضارية بعد في حياته، ولم تفسد فطرته، ولم تتكاثر عليه عوامل الصد والتحريف- كانت فطرته كافية في توجيهه وهدايته إلى ربوبية الله تعالى، وفي التزامه بطاعة الله وعبادته، وهذا هو مضمون الميثاق الفطري، الا ان الانسان في تلك المرحلة لم يكن بحاجة إلى اكثر من عامل الفطرة في الاقرار والالتزام بتوحيد الله وعبادته وطاعته.
إنّ هذه المرحلة هي مرحلة حاكمية الفطرة، وقد استمرت منذ آدم عليه السلام إلى ما قبل عصر نوح عليه السلام. وكان الناس في هذه الفترة امة واحدة على دين الفطرة وهداها، يقول تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ…﴾. (البقرة: 213).
وبيَّن ان الآية الكريمة تشير إلى مرحلتين في تأريخ الانسان:
الاولى: عندما كان الناس امة واحدة.
الثانية: عندما اختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين يحملو كتاب الله ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه.
إنّ المرحلة الاولى هي مرحلة الفطرة التي كان الناس فيها امة واحدة، لم تتعقد حياتهم ولم تتطوّر حضارتهم ولم تفسد فطرتهم، ولم يظهر الاختلاف بينهم.
فيما تمثل المرحلة الثانية انتقال الناس إلى حالة حضارية اكثر تعقيداً إذ بدأ الاختلاف وتلوثت الفطرة.
* مراحل تاريخ الانسان في القران/ اية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي.