زهير بن القين البجلي من كبار شيوخ قبيلة بجيلة في الكوفة وكان عثماني الهوى، وفي سنة 61 هـ كان زهير راجعا من مكة المكرمة بعد أدائه فريضة الحج، في السنة التي أقبل فيها الامام الحسين (ع) إلى العراق.
زهير يساير الامام الحسين (ع)
كان زهير بن القين يساير الامام الحسين (ع)، فلم يك شيء أبغض على زهير من أن ينزل مع الحسين (ع) في مكان واحد أو يسايره في طريق واحد؛ لأنه كان عثمانياً.
لما حط الامام الحسين (ع) في منزل “زرود” نزل بالقرب منه زهير بن القين، فبعث إليه الإمام (ع) رسولاً فأقبل الرسول فقال: يا زهير إنّ الحسين (ع) يدعوك، فكره زهير الذهاب إلى الامام الحسين (ع)، فقالت له زوجته “دلهم بنت عمرو”: يا سبحان الله! أيبعث اليك الحسين ابن فاطمة ثمّ لا تأتيه، ما ضرك لو أتيته فَسَمِعْتَ كلامه ورجعت، فذهب زهير على كره، فما لبث أن عاد مستبشراً ضاحكاً وقد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه فقلع، وضم فسطاطه بركب الإمام الحسين ثم ودّع زوجته قال لها: أنت طالق، فتقدمي مع أخيك حتى تصلي إلى منزلك، فإني قد وطنت نفسي على الموت مع الحسين (ع)، فقامت إليه وبكت وودعته، وقالت: كان اللَّه عوناً ومعيناً، خارَ اللهُ لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين (ع).
وقال زهير لمن كان معه من أصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني، وإلاّ فانّه آخر العهد. ثم قال: إنّي سأحدّتَكم حديثا: غزونا بلَنْجَر (شمال القوقاز)، ففتح اللّه علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي (قائد فتح أذربيجان وارمينيا والقوقاز واستشهد في بلنجر) : (أفرحتم بما فتح اللّه عليكم، وأصبتم من الغنائم؟! فقلنا: نعم، فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم)، فأمّا أنا فإنّي أستودعكم اللّه. ومال زهير إلى معسكر الامام الحسين (ع) ومعه ابن عمّه سلمان بن مضارب.
خطبة زهير في ذي حُسم:
لمّا عارض الحرّ بن يزيد، الامام الحسين (ع) في الطريق، وأراد أن ينزله حيث يريد، أبى الحسين (ع) عليه، فلمّا بلغ منزل ذي حُسم قام الامام (ع) خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بَعد فَانّه قد نَزَلَ بِنا مِن الأمر ما قد تَرَون، ألا وإنّ الدّنيا قَدْ تغيّرت، وتَنَكَّرت، وأدْبَرَ مَعرُوفَها … ألا تَرَون الْحَقَّ لا يُعمل بِه والْباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء اللّه مُحقّا، فإنّي لا أرى الْمَوت إلاّ شهادة – سعادة- ولا الحَياة مَعَ الظّالِمين إلاّ بَرَما.
فقال: زهير بن القين البجلي لأصحابه: أتتكلمون أم أتكلم؟ قالوا: لا، بل تكلم، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: قد سمعنا ـ هداك اللّه ـ يابن رسول اللّه مقالتك، واللّه لو كانت الدنيا باقية وكنا فيها مخلّدين، إلاّ أن فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرْنا النهوض معك على الإقامة فيها. فدعا له الحسين (ع)، وقال له خيراً.
زهير يقترح منازلة الحر وأصحابه
حينما وصل كتاب عبيدالله ابن زياد الى الحر بن يزيد الرياحي- وهو في نينوى- أمره بالتّضييق على الحسين (ع)، وأنْ يُنزله بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وكان في كتاب ابن زياد للحر: أما بعد فجعجع بالحسين (ع) حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتي كتابه وهذا رسوله، وقد أمره ألاّ يفارقني حتى أنفذ أمره. فقال له الحسين (ع): دعنا ننزل في هذه القرية أو هذه يعني نينوى والغاضرية أو هذه يعني شفية.
قال الحر: إنّ الأمير كتب إلي أن أحلك على غير ماء، ولا بد من الانتهاء إلى أمره.
فقال زهير بن القين للحسين (ع): بأبي وأمي يا ابن رسول الله (ص)، والله لو لم يأتنا غير هؤلاء لكان لنا فيهم كفاية، فكيف بمن سيأتينا من غيرهم ؟ فهلم بنا نناجز هؤلاء، فإن قتال هؤلاء أيسر علينا من قتال من يأتينا من غيرهم. قال الحسين (ع): فإني أكره أن أبدأهم بقتال حتى يبدأوا.
فقال له زهير: فها هنا قرية بالقرب منا على شط الفرات، وهي في عاقول حصينة، الفرات يحدق بها إلا من وجه واحد. قال الحسين (ع): وما اسم تلك القرية ؟ قال: العقر. قال الحسين (ع): نعوذ بالله من العقر.
وفي اليوم التاسع من محرم الحرام خطب الامام الحسين (ع) في أصحابه فقال: (أما بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر و (لا) أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً، ألا وإني لأظن يوما لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم حرج مني ولا ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا…. فقام زهير بن القين، فقال: والله لوددت أنّي قتلت، ثمّ نشرت، ثمّ قتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرّة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
في صباح العاشر من المحرم جعل الإمام الحسين (ع) زهير بن القين على الميمنة، وحبيب بن مظاهر على الميسرة ووقف في القلب وأعطى الراية لأخيه العباس (ع).
زهير يعظ معسكر عمر بن سعد:
بعد أن فرغ الإمام الحسين (ع) من وعظ معسكر ابن سعد، خرج زهير بن القين على فرس له شاك في السلاح فقال: يا أهل الكوفة بدار (نذار) لكم من عذاب الله بدار (نذار) إنّ حقاً على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا نحن أمّة وأنتم أمّة. إنّ الله قد ابتلانا وإياكم بذرية محمد (ص)؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تُدركون منهما إلاّ السوء عُمَر سلطانهما كلّه، إنهما يسمّلان أعينكم، ويقطّعان يديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتّلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حُجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه؛ فسبوه وأثنوا على ابن زياد، فقال لهم: يا عباد الله إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سميّة، فإن كنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فلعمري إن يزيد يرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين (ع).
فرماه شمر بسهم، وقال: اُسكت، أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال زهير: يا ابن البوال على عقبيه ما إياك أخاطب إنمّا أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، وأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال شمر: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: أفبالموت تخوّفني! والله للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم.
ثم رفع زهير صوته وقال: عباد الله لا يغرّنكم من دينكم هذا الجلف الجافي، فوالله لا تنال شفاعة محمد قوماً أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم. فأمره الحسين عليه السلام فرجع.
وعندما حانت صلاة الظهر يوم عاشوراء أمر الامام الحسين (ع) زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف معه، ثم صلّى الامام (ع) بهم صلاة الخوف.
استشهاد زهير
لما فرغ الإمام الحسين (ع) من الصلاة، تقدّم زهير فجعل يقاتل قتالاً لم يُر مثله، ولم يُسمع بشبهه، وأخذ يحمل على القوم، وهو يرتجز ويقول:
أنا زهير وأنا ابن القين أذودكم بالسيف عن حسين
إن حسينا احد السبطين من عترة البر التقي الزين
ياليت نفسي قسمت قسمين
ثم رجع فوقف أمام الحسين(ع) وقال له:
فدتك نفسي هادياً مهدياً اليوم ألقى جدّك النبيا
وحسناً والمرتضى علياً وذا الجناحين الشهيد الحيا
فكأنه ودعه، وعاد يقاتل، فشدّ عليه “كثير بن عبد الله الشعبي و مهاجر بن أوس التميمي” فقتلاه.
الإمام (ع) يؤبن زهير بن القين
لمّا صرع زهير بن القين، وقف عليه الإمام الحسين(ع) فقال: لا يبعدنك الله – يا زهير – ولعن قاتلك لَعْنَ الذين مُسخوا قردة وخنازير.
زهير في زيارة الشهداء
ورد زهير السلام عليه في زيارة الشهداء: السلام على زهير بن القين البجلي القائل للحسين (ع) وقد أذن له في الانصراف: لا واللّه، لا يكون ذلك أبداً! أ أترك ابن رسول اللّه (ص ) أسيراً في يد الأعداء وأنجو أنا!؟ لا أراني اللّه ذلك اليوم.
((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا((، سورة الأحزاب: آية 23.
سلام الله عليك يا زهير بن القين البجلي يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.. وفقنا الله تعالى للسير على نهجك، ورزقنا زيارتك مرقدك في الدنيا وشفاعتك في الآخيرة … اللهم آمين.