Search
Close this search box.

نبال الحقد.. تحفة من مدرسة الفن الحسيني

عادة ما يحاول الفنان اثبات أصالته وصدقه في أداء رسالته، متخطيا جميع المعوقات التي تقف في طريقه في بداية مسيرته المضنية ومعاناته، وقد التصق الفنان بشكل عام.

والفنان التشكيلي المسلم بشكل خاص عبر تجربته الفنية بمحيطه الاجتماعي، متوخيا الجمع بين المعاصرة والتراث، تلك المعادلة الصعبة التي لم يستطع تحقيقها إلا القلائل من اجل خلق مدرسة فنية ذات طابع متميز كما في مدرسة الفن الحسيني.

والفن الحسيني كأي فن آخر يمتلك خواصا جمالية إنسانية وهو بنفس الوقت يحوي على القيمة الروحية والدينية الأصلية، وهذه بالضبط هي صفات الفن أجمالا ، فلم تكن عودة الفنان إلى الموروث الحضاري في استلهامه للأشكال التراثية إلا للبرهنة على قيمة الماضي وأصالته، فاكتشاف الفنان لذاته يتطلب منه معرفة بالجذور، وقد حاول بعض التشكيليين إيجاد رؤى فنية وفق أسلوب فني يتسنى لهم أن يصفونها بأنها ذات طابع ما كما هو حال رسام اللوحة اعلاه، وهذا بالتأكيد هو السبب الرئيسي لاتجاه بعض التشكيليين صوب استلهام المفردات الرمزية الواردة عبر المرويات والثيمات المحلية الشائعة، ولا شك إن ما حققوه من أسلوب ما هو إلا وليد للتزاوج بين التراث والمعاصرة .

اللوحة أعلاه من إبداعات الرسام والخطاط ( علي بحريني ) وهو احد قلائل الفنانين المحدثين الذين خاضوا تجربة الرجوع الى الروايات والسير المتواترة وتوظيفها في تصوير شخوص وأجواء منجزاتهم الفنية الإبداعية وقد جسد بحريني في هذه التحفة الفنية لحظة تلقي جسد ابن بنت رسول نبال الحقد الأموي في يوم عاشوراء، وأبدع في تصوير الموضوع وجعله مؤثراً في نفس المشاهد من خلال تكوين انشائي محكم تشغل عناصره فضاء اللوحة ومساحتها طولا وعرضاً .

وضع الفنان ألوان اللوحة وعناصرها بصورة تعبيرية ورمزية انطلاقا من مرويات الواقعة عن أحوال الدنيا لحظة وبعد مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام، والتي شكلت عوامل ضغط على الرسام لأن يجعل المنظور اللوني العام للعمل يسوده اللون البني الغامق تعبيراً عن الحزن، مستخرجاً منه تدرجات لونية منسجمة ما بين الأحمر والأصفر ومشتقاتهما لتشترك مع الخط في إبراز الأشكال السيادية في العمل مع ملاحظة التناوب بين الغامق والفاتح في إظهار الاشكال، فضلا عن اختياره للألوان البرتقالية الممزوجة بالبني والأسود تعبيرا عن المناخ المتوحش وإراقة الدماء في الموضوع المنجز وهو واقعة كربلاء ، مما أكسبها قيمة تعبيرية و رمزية عبر فيها عن قيمة الشهادة والنصر.

وقد وظف الفنان هنا رمزاً لشخصية الإمام الحسين سلام الله عليه جسد من خلاله ملامح البطولة والشهادة، لذا نرى الفنان قد عبر عنه بصورة تحاكي مرويات الواقعة ولحظة استشهاده عليه السلام ليحمله دلالة إنسانية، بوصفه معبراً عن مضمون الشهادة والتضحية في سبيل الدين والعقيدة فضلاً عن المضمون الاجتماعي الذي يعبر عنه، وقد جاءت الأشكال والرموز في فضاء اللوحة – مثل الخيام في أعلى اليمين وبعض والغبار الكثيف وأشكال بعيدة لخيول وفرسان ونبال متوجهة نحو الجسد الطاهر وأخرى تملأ جسده الطاهر- بغية ترك الخيار للمتلقي واطلاق العنان لمخيلته ووجدانه في تصور ما حل بالحسين عليه السلام ومن معه في اليوم العاشر من محرم الحرام في أرض كربلاء.

لقد حاول رسام اللوحة إبراز أعلى القيم الجمالية الممكنة والمؤثرة في نفس المتلقي من خلال هذه اللوحة، حيث التجأ إلى أسلوب الرسوم الشعبية المؤثرة عادة في المتلقين، فكما هو متعارف عليه أن إبراز القيم الجمالية في أي عمل فني شعبي لا يتم إلا من خلال ارتباط تلك الأعمال الفنية بالأفكار والمعاني والمعتقدات الجمعية من جهة، والحاجات الاجتماعية والنفسية التي يريد إشباعها الرسام والجماعة التي ينتمي إليها من جهة أخرى، وهذا ما أكده عالم الأنثروبولوجيا الحضاري ميلمن، بأن الخصائص الحضارية والثقافية والتراثية هي التي تقرر التقييم الجمالي لأي عمل فني.

ولما كانت القيم الجمالية نسبية في المكان والزمان، فأن أعمال هؤلاء تصبح جميلة في عيون أصحابها ومحبيها، شريطة أن لا يلغي هذا الارتباط دور الرسام الشعبي في تكوين قيم جمالية خاصة به ترسلها إبداعاته للمتلقين، فعلى الرغم من أن كل إنتاج خاص بالواقعة غايته الأساسية هي خدمة قضية الطف بصيغة أو أخرى ألا أن العمليات التنظيمية البنائية للأعمال وطبيعة الانتقاء القصدية للأشكال التي تتوافق مع المضمون، وما يقوم به من عمليات ترميزية يؤدي إلى قيم جمالية أخرى كان قد اصطلح عليها بالقيم الموضوعية.

ولذلك تنوعت الرسوم في كيفية إنشائها وأشكالها ورموزها، وبالخصوص الرسوم الشعبية باختلاف أساليب التعبير المختلفة وكل ما يتضمنه من إيقاعات وعلاقات، وأن من خصوصية الرسوم الشعبية الاتحاد بالمجموع، هذا الاتحاد الذي أدامها وأدى الى ازدياد تعلق الناس بها باعتبارها أيقونات ترسخ العقيدة وتدفع إلى الالتزام بها وبقضيتها ومناصرتها ويقلل في نفس الوقت من أهمية ما يثار حولها من شبهات.

إذن إن أجواء اللوحة كما صاغها علي بحريني تحمل صورة درامية تعكس تأثره بأحداث فاجعة يوم الطف الأليمة، وهي تعبر في نفس الوقت عن روح المعاصرة في استلهام الجانب القصصي البطولي والمأساوي، إذ نلمس أن الفنان قد وظف الرموز التي استلهمها من مرويات يوم عاشوراء في بناءات تركيبية تحمل روح المعاصرة، وهي بمجملها معبرة عن مضامين ودلالات اجتماعية وأخرى إنسانية مثل الشهادة والبطولة والنصر في تعبيرات رمزية ، فضلاً عن الدلالات السياسية ،حيث عبر الفنان عن مضمون الشهادة والتضحية والوقوف بوجه الظلم والجور في سبيل الدين والعقيدة فكانت تمثل محاولة جادة لبلورة رؤية الفنان الذاتية تجاه موضوعه.

المصدر: العتبة الحسينية المقدسة

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل