القرآن والحسين(ع) طراوة دائمة
في السیرة الإمام الحســـين /
أكثر من وجه وتشابه بين القرآن العظيم الثقل الأكبر، وبين أئمّة الهدى وعترة النبي الأكرم الثقل الأصغر في أمّته، لذلك قرن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين جاعلاً أحدهما عدلاً للآخر، قائلاً: (إنّي قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسّكتم بهما: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي. فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) [الكافي، الكليني، ج2، ص415].
وفي هذه الكلمات نوجز الكلام في العلاقة والتشابه والارتباط الوثيق بين كتاب الله المنـزّل وبين سيد الشهداء أبي الأحرار الحسين (عليه السلام) ثالث العترة الطاهرين.
إنّ من الخصائص البيّنة والظاهرة لكتاب الله العزيز طراوته وتجدده في كلّ زمان ومع كلّ جيل، وهذا ما حيّر أهل البلاغة والفصاحة من العرب وغيرهم.
وطراوة القرآن الكريم تأخذ بعداً لفظياً في سبكه وجزالة ألفاظه ومفرداته، كما تأخذ بُعداً معنوياً ومضمونياً، فهو طري المعنى والمضمون لكل قارئ ومتأمّل فيه، لا يؤثر فيه تقادم السنين، ولا اختلافات الثقافات، ولا تعاقب الأجيال، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15-16].
إنّ آفاق القرآن المجيد هي آفاق مفتوحة ومترامية، ومراميه أوسع مما يفكّر به الإنسان أو يجول في خلده. يقول الإمام الصادق(عليه السلام) وقد سئل: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ فقال: ((لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة)) [ميزان الحكمة3: 2519].
وقد جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: ((عليكم بالقرآن، فإنّه الشفاء النافع، والدواء المبارك، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتبعه، ثم قال: ((أتدرون من المتمسّك به، الذي يتمسّكه ينال هذا الشرف العظيم ؟ هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنّا أهل البيت وعن وسايطنا، السفراء عنّا إلى شيعتنا، لا عن آراء المجادلين، فأمّا من قال في القرآن برأيه فإن اتفق له مصادفة صواب فقد جهل في أخذه عن غير أهله، وإن أخطأ القائل في القرآن برأيه فقد تبوّأ مقعده من النار)).(الوسائل 27: 33، أبواب صفات القاضي، ب5، 8].
وفي جملة ما أوصى به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بخصوص القرآن قوله: (وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص، فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم ) [نهج البلاغة:216].
وقد اعترف بهذا المعنى خصوم القرآن الأوائل في شبه جزيرة البلاغة والفصاحة شبه جزيرة العرب، وأيقنوا بأنّهم عاجزون عن مجاراة القرآن وطراوته التي لا يمكن أن يماثلها أو يحويها شعر أو أدب إنسان، ولذلك يقول الوليد بن المغيرة: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، إنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمعذق، وما يقول هذا بشر.[بحار الانوار17: 212].
فالقرآن له اللغة العالمية للفطرة: قال آية الله الجوادي الآملي في مقدمة تفسير التسنيم في تفسير القرآن: وليس مقصودنا من كون لغة القرآن عامة لجميع الناس هو تحدث القرآن بالثقافة المشتركة لجميع الناس، فالناس وإن اختلفوا في لغاتهم وآدابهم ولم يتحدوا في أعرافهم وثقافتهم القومية والإقليمية، ولكنهم مشتركون في ثقافتهم الإنسانية التي هي ثقافة الفطرة التي لا تبديل لها ولا تغيير)) [تفسير التسنيم، ص61].
الإمام الحسين وطراوة الذكر وآفاق التجدد
ونلمس هذه الخصوصية القرآنية في عدِل القرآن الإمام الحسين (عليه السلام)، استشهد في القرن الأوّل الهجري في سنة (61)، ومن الطبيعي أنّ أي إنسان تمضي عليه هذه المدّة الطويلة لابد وأن يعيش في ذاكرة النسيان والخمول وإن بقي ذكره، إلّا إنّ هذا الذكر يدخل في باب التاريخ وصفحات الماضي، فهو ميت في واقع الحياة.
إلاّ أنّنا نشاهد عكس ذلك في ذكرى سيد الشهداء؛ إذ يبرز لذكراه التجدد والحضور الدائم في حياة الأحرار وعشّاق الكرامة والعزّة، وهذا هو المحرّك الأساس في حياتهم الوجدانية والفكرية والاجتماعية، فالحسين (عليه السلام) فكرة تعيش في عقول الأحرار وضمائرهم وثقافتهم الإنسانية، فهو صانع التاريخ الماضي والحاضر، وهو الأفق المشرق في مستقبلهم، وهو(عليه السلام) عندهم لا يمثّل مبادئ وموروثاً مقدساً يصنع الحياة فقط، بل إنّه الوجدان الحيّ الفياض والمتدفق في كلّ حين وآن، فالحسين (عليه السلام) يملأ كلّ أحاسيسهم وعواطفهم، وهو بوصلة القلب في الحبّ والبغض في قلوبهم.
وللإمام الحسين(عليه السلام) سحرية وجاذبية تأسر النفوس وتخيّم على الأرواح، لا تُحدّ بزمن ولا تقف في قالب ثقافي أو مذهبي أو إيديولوجي خاصّ، فإنّه (عليه السلام) قد سَحَرَ النصارى واليهود والصابئة، وجَذَبَ كلّ متحرر إليه حتى الذين لم يؤمنوا بالدين ولم يعتنقوا عقيدة السماء حتى سيطر على أفكارهم ووجدانهم، ولا يمتلك الإنسان إذا كان يعيش وجداناً حرّاً وضميراً حيّاً إلاّ أن تفيض روحه قبل عينيه بكاءً وألماً على المأساة الدامية في أرض التضحيات التي حلّت به وبأهل بيته (عليهم السلام).
وإذا كان الموحّدون لله لا يسأمون من التدبّر في كتاب الله ولا يملّون قراءة القرآن والتغنّي بتلاوته، فإنّ عشّاق الحسين(عليه السلام) والثورة يعيشون هذه الأحاسيس والتلهّف الدائم، بل إنّهم في كلّ مجلس أو محفل أو شعيرة تقام باسم الحسين يعيشون حالة جديدة مع أبي عبدالله(عليه السلام) ويكتشفون بُعداً جديداً في شخصيته ومضموناً نابضاً في ثورته وحركته المقدّسة؛ لأنّها تمثّل امتداداً واستمراراً للرسالة المحمدية، فالإسلام كما قيل عنه: محمدي الوجود، وحسيني البقاء. وقد أشار النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هذه الحقيقة عندما قال: (حسين منّي وأنا من حسين)[الإرشاد الشيخ المفيد 21: 127].
إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) مستلهمة كل مفاهيمها ومعانيها من مفاهيم القرآن الكريم ومعانيه، فهي تكوّن الحس الاجتماعي وتخلق روح الثورة في النفوس للخروج من الخوف والخنوع اللذين يسودان الأمّة إلى الالتحاق بمبادئ الثورة والنضال للتحرر من رقبة الذل والعبودية، وتغيير جميع السلبيات التي يعيشها الأجيال وإلى إيجابيات تصنع منهم رجالاً ثوريين يقفون بوجه الظلم والاستبداد، يقول السيد مير علي الهندي تعليقاً على كلام المؤرخ الإنجليزي (غيبون): إنّ مذبحة كربلاء قد هزّت العالم الإسلامي هزّاً عنيفاً مما ساعد على تقويض دعائم الدولة الاموية ) (مختصر تاريخ العرب، ص93(
وعن هذا المعنى تكلّم جملة من العلماء والمفكرين المستشرقين، وبهذا الصدد ننقل هنا جملة من نصوصهم:
قال الآثاري الإنجليزي وليم لوفتس: لقد قدّم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنساني،ة وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة.
وقال المستشرق الألماني ماربين:قدّم الحسين للعالم درساً في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعزّ الناس لديه، ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيته، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما. لقد أثبت هذا الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أنّ الظلم والجور لا دوام له، وأنّ صرح الظلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر إلّا أنّه لا يعدو أن يكون أمام الحق والحقيقة إلّا كريشة في مهب الريح.
وقال المفكر المسيحي انطوان بارا: لو كان الحسين منّا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبراً، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين.
وقال المستشرق الإنـجليزي إدوار دبروان: وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟! وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها.
وقال الكاتب الإنجليزي كارلس السير برسي سايكوس ديكنـز: إنّ كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنّني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذاً فالعقل يحكم أنّه ضحّى لأجل الإسلام فقط.
وقال أيضاً: الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت، وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا.
وقال الهندوسي والرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي تاملاس توندون: هذه التضحيات الكبرى ـ من قبيل شهادة الإمام الحسين ـ رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتذكر على الدوام.
وقال الزعيم الهندي غاندي: لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء، واتضح لي أنّ الهند إذا أرادت إحراز النصر فلا بدّ لها من اقتفاء سيرة الحسين .
نعم هكذا تأثّر محرر الهند بشخصية الإمام الحسين ثائراً حقيقياً، وعرف أنّ الإمام الحسين مدرسة الحياة الكريمة ورمز المسلم القرآني وقدوة الأخلاق الإنسانية وقيمها ومقياس الحق..
وإنّ من شعائر الحسين الحافلة بحضور الجماهير المليونية المؤمنة وأفواج الأحرار زيارة الأربعين، والمسيرة المليونية الطويلة على الأقدام نحو كربلاء الفداء والتضحية والعزّة.
يقول الإمام الحسين(عليه السلام): ((أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلاّ استعبر))[ كامل الزيارات:215].
يحار المرء إذا أراد أن يفكّر بالمقاييس المتعارفة كيف يفسّر الزحف المليوني نحو مرقد سيد الشهداء وهو يرى التضحيات الجسام والآلام التي يعاني منها الزائرون وهم يقطعون الطرق والمسافاة الطويلة، مع الأخطار التي تحفّ بهم من كل حدب وصوب، والأخطر من هذه كلّها تهديدات الأمويين واليزيدين الجدد وهم يحاولون صدّهم بالتفجير والقتل والذبح وقطع الرقاب على طريقة أسلافهم مؤسسي الوحشية وشرعة القتل والتمثيل بالموتى.
لكن الأعجب من كل هذا هو الشوق المتزايد والحبّ الطافح الذي يقودهم نحو الحسين، وكأنّ الحسين قد قتل اليوم، وكأنّ كربلاء ماثلة في شهر محرم وصفر، وصوت الحسين لازال يستحثّ الأحرار ويستنهض أهل الكرامة وكأنّ صرخة (ألا من ناصر ينصرنا، ألا من مغيث يغيثنا) لا زالت تدوّي أسماعنا، ولازالت زينب الحوراء مسبية بيد الطلقاء وطغمة الجاهلية من الأمويين والمروانيين، يسيرون وزينب الحوراء تسير معهم نحو الحسين في موكب الحزن والبكاء، صارخة بصوتها الأبدي بوجه طاغية الشام:
(فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها… وهل رأيك إلاّ فند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد).
وقد جاء في الدعاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في دعائه لزوار الإمام الحسين (عليه السلام) ما رواه عن معاوية بن وهب، قال: استأذنت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقيل لي: ادخل. فدخلت فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتى قضى صلّاته، فسمعته وهو يناجي ربّه وهو يقول: ((اللهم يا من خصّنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصّنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني، وزوار قبر أبي عبد الله الحسين، الذين انفقوا أموالهم، واشخصوا أبدانهم، رغبة في بّرنا، ورجاء لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك، وإجابة منهم لا مرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضوانك. فكافهم عنا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم، واكفهم شرّ كل جبّار عنيد، وكل ضعيف من خلقك وشديد، وشرّ شياطين الإنس والجنّ، وأعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما أثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.
اللهم إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا. اللهم إنّي أستودعك تلك الأبدان وتلك الأنفس، حتى توافيهم من الحوض يوم العطش.
فما زال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء، فلمّا انصرف قلت: جعلت فداك، لو أنّ هذا الدعاء الذي سمعت منك كان لمن لا يعرف الله عزّ وجلّ لظننت أنّ النار لا تطعم منه شيئاً أبداً، والله، لقد تمنيت أنّي كنت زرته ولم أحجّ. فقال لي: ((ما أقربك منه، فما الذي يمنعك من زيارته؟!)). ثم قال: ((يا معاوية، ولم تدع ذلك)) قلت: جعلت فداك لم أدرِ أنّ الأمر يبلغ هذا كلّه، فقال: ((يا معاوية، من يدعو لزّواره في السماء أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض)).[ثواب الاعمال الشيخ الصدوق : 96]
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك منّي سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتكم.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين(عليه السلام).