لما اصبح الامام الحسين يوم عاشوراء وصلّى باصحابه صلاه الصبح قام خطيبا فيهم حمد الله واثنى عليه ثم قال: (ان الله سبحانه وتعالى قد اذن في قتلکم وقتلي في هذا اليوم فعليکم بالصبر والقتال) ثم صفّهم للحرب.
معسكر الايمان مقابل معسكر النفاق
كان اصحاب وانصاره الامام الحسين (عليه السلام) ما بين فارس وراجل، فجعل (زهير بن القين البجلي) على الميمنة و(حبيب ابن مظاهر الاسدي) على الميسرة واعطى رايته اخاه العباس (ع) وثبت هو (عليه السلام) واهل بيته في القلب.
وزحف (اللعين) عمر ابن سعد بعسكره نحو معسكر الامام الحسين (ع) وعلى الميمنة (اللعين) “عمرو ابن الحجاج الزبيدي” وعلى الميسرة (اللعين) “شمر ابن ذي الجوشن” وعلى الخيل (اللعين) “عزره بن قيس” وعلى الرجالة (اللعين) “شبث بن ربعي” والراية مع (اللعين) “ذويد” مولاه، واقبلوا يجولون حول مخيم الامام (ع) فيرون النار تضطرم في الخندق، فنادى شمر باعلى صوته يا حسين تعجلت بالنار قبل يوم القيامة، فقال الحسين (ع) من هذا کانه شمر ابن ذي الجوشن قيل نعم: فقال (ع) له (يا بن راعية المعزى انت اولى بها مني صيليا)، ورام مسلم ابن عوسجه ان يرميه بسهم فمنعه الحسين (ع) وقال اکره ان ابدأهم بقتال.
الامام الحسين (ع) يدعو الله تعالى عند الشدة
ولما نظر الحسين (ع) الى جمعهم کانه السيل رفع يديه بالدعاء وقال: ((اللهم انت ثقتي في کل کرب ورجائي في کل شدة، وانت لي في کل امر نزل بي ثقة وعّدة، کم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك وشکوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك، فکشفته وفرجته، فأنت ولي کل نعمة ومنتهي کل رغبة((
الحسين (ع) يلقي الحجة على اعدائه
ثم دعا الامام الحسين (ع) براحلته فرکبها ونادي بصوت عال يسمعه جلهم، ((ايها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى اعظکم بما هو حق لکم عليّ وحتى اعتذر اليکم من مقدمي عليکم، فان قبلتم عذري وصدّقتم قولي واعطيتموني النصف من انفسکم، کنتم بذلك اسعد، ولم يکن لکم عليّ سبيل، وان لن تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من انفسکم، فأجمعوا امرکم وشرکائکم ثم لا يکن أمرکم عليکم غمّة ثم اقضوا اليّ ولا تنظرون ** ان وليّ الله الذي نزّلَ الکتاب وهو يتولي الصالحين)).
فلما سمعنّ النساء هذا من الامام الحسين (ع) صحن وبکين وارتفعت اصواتهنّ فأرسل إليهن أخاه العباس وابنه علياً الأکبر (عليهما السلام) وقال لهما إسكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن، ولما سكتن، حمد الله واثنى عليه وصلّى على النبي محمد وعلى الملائکة وقال في ذلك ما لا يحصى ذکره ولم يسمع متکلم قبله ولا بعده ابلغ منه في منطقه ثم قال: (الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حال بعد حال، فالمغرور من غرته والشقي من فتنته، فلا تغّرنکم هذه الدنيا فانها تقطع رجاء من رکن اليها، وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراکم قد أجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله فيه عليکم واعرض بوجهه الکريم عنکم واحّل بکم نقمته وجنبّکم رحمته، فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد انتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد (صلّى الله عليه واله) ثم انکم ذهبتم الى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد أستحوذ عليکم الشيطان فأنساکم ذکر الله العظيم، فتّباً لکم ولما تريدون، إنا لله وإنا اليه راجعون، هؤلاء قوم کفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين. إيها الناس انسبوني من أنا ثم ارجعوا الى أنفسکم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لکم قتلي وانتهاك حرمتي. ألست ابن بنت نبيکم وابن وصيه وابن عمه واول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه ؟ او ليس (حمزه سيد الشهداء) عم ابي ؟ اوليس (جعفرالطيار) عمي ؟ او لم يبلغکم قول رسول الله (ص) لي ولأخي (هذان سيدا شباب اهل الجنة) ؟ فان صدّقتموني بما اقول وهو الحق، والله ما تعمّدت الکذب منذ علمت ان الله يمقت عليه اهله ويضرّ به من اختلقه، وان کذّبتموني فان فيکم من ان سألتموه عن ذلك اخبرکم، سلوا (جابر ابن عبد الله الانصاري) و (ابا سعيد الخدري) و(سهل ابن سعد الساعدي) و (زيد ابن ارقم) و (انس ابن مالك ) يخبروکم أنهم سمعوا هذه المقاله من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لکم عن سفك دمي ؟
فقال الشمر: هو يعبد الله على حرف ان کان يدري ما تقول.
فقال له ( حبيب ابن مظاهر) والله اني اراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وانا اشهد انك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.
ثم قال الحسين (ع) فأن کنتم في شك من هذا القول، افتشکون اني ابن بنت نبيکم ؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيا غيري فيکم ولا في غيرکم. ويحکم اتطلبوني بقتيل منکم قتلته ؟! او مال لکم استهلکته ؟! او بقصاص جراحة ؟! فاخذوا لايکلمونه.
فنادي الحسين (ع): (يا شبث ابن ربعي ويا حجار ابن ابجر ويا قيس ابن الاشعث ويا زيد ابن الحارث) الم تکتبوا أليّ ؟ ان اقدم قد اينعت الثمار واخضّر الجناب، وانما تقدم على جند لك مجنده.(
فقالوا لم نفعل قال (عليه السلام): سبحان الله، أما والله لقد فعلتم.
ثم قال (ع): (إيها الناس إذا کرهتموني فدعوني انصرف عنکم الى مأمن من الارض)
فقال له قيس ابن الاشعث: اولا تنزل على حکم بني عمّك فانهم لن يروك الا ما تحب، ولن يصل اليك منهم مکروه.
فقال له الحسين (ع) انت اخو اخيك، أتريد ان يطلبك بنو هاشم اکثر من دم مسلم ابن عقيل ؟! ، لا والله لا عطيهم بيدي اعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد، عباد الله اني عذت بربي وربکم ان ترجمون، أعوذ بربي وربکم من کل متکبر لا يؤمن بيوم الحساب)، ثم أناخ راحلته وامر عقبة بن سمعان فعقلها.
الصلاة عمود الدين
وبعد الجولة الاولى من القتال وتقدم الاصحاب الواحد والاثنين الى ساحة القتال واستشهاد اغلب اصحاب الامام الحسين (ع) حان وقت صلاة الظهر، فصلى الامام (ع) بمن بقي من أصحابه صلاة الخوف، وتقدم امامه (زهير بن القين لبجلي وسعيد بن عبد الله الحنفي) في نصف من اصحابه، ولما أُثخن سعيد بالجرح سقط الى الارض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، وأبلغ نبيك مني السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فاني اردت بذلك ثوابك في نصرة ذرية نبيك صلى الله عليه وآله. والتفت الى الحسين (ع) قائلا : أوفيت يا ابن رسول الله ؟ قال (ع) :
نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرء رسول الله مني السلام، وأعلمه أني في الأثر، وقضى نحبه، فوجد به ثلاثة عشر سهماً غير الضرب والطعن.
الحسين (ع) يبشر بقية اصحابه بالجنة
ولما فرغ الامام الحسين (ع) من الصلاة قال لأصحابه: ((يا كرام هذه الجنة قد فتّحت أبوابها واتصلت أنهارها وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه وذبّوا عن حرم الرسول)) فقالوا : (نفوسنا لنفسك الفداء ودماؤنا لدمك الوقاء، فوالله لا يصل اليك والى حرمك سوء وفينا عرق يضرب)، ووثبوا الى خيولهم فعقروها.
الحسين (ع) يودع بنات الرسالة
وبعد استشهاد بقية اصحاب الامام الحسين (ع) وأهل بيته وولده عبد الله الرضيع سلام الله عليهم اجمعين، ودع الامام (ع) الهاشميات وبنات الرسالة زينب واخواتها وبناته.
الحسين (ع) في الميدان
تقدّم الامام الحسين (ع) نحو القوم مصلتاً سيفه، ودعا الناس الى البراز، فلم يزل يقتل كل من برز اليه حتى قتل جمعاً كثيراً، ثم حمل (عليه السلام) على الميمنة وهو يقول :
الموت اولى من ركوب العار *** والعار اولى من دخول النار
وحمل (عليه السلام) على الميسرة وهو يقول :
انا الحسين بن علي *** آليت أن لا أنثني
أحمي عيالات أبي *** أمضي علي دين النبي
الحسين (ع) صريعا
وأعيى نزف الدم الامام الحسين(ع)، فجلس على الارض ينوء برقبته، فانتهى اليه في هذا الحال (اللعين) “مالك بن النسر” فشتمه ثم ضربه بالسيف على راسه وكان عليه برنس فامتلأ البُرنس دماً فقال الحسين (ع): (لا أكلت بيمينك ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين) ثم ألقى البُرنس واعتم على القلنسوة.
مقتل فتيان الطالبيين عند مصرع الحسين (ع)
قال (اللعين) “هاني بن ثبت الحضرمي”: اني لواقف عاشر عشرة لما صرع الحسين (ع) إذ نظرت الى غلامٍ من آل الحسين (ع) عليه ازار وقميص وفي اذنيه درتان وبيده عمود من تلك الأبنية وهو مذعور يتلفت يميناً وشمالا، فأقبل رجل يركض حتى اذا دنا منه، مال عن فرسه وعلاه بالسيف فقتله، وذلك الغلام هو محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب، وكانت امه تنظر اليه وهي مدهوشة.
ونظر “عبد الله بن الحسن السبط (ع) وله احدى عشرة سنة الى عمه الحسين (ع) وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتد نحو عمه، وأرادت عمته زينب (ع) حبسه فأفلت منها، وجاء الى عمه (ع) وأهوى (اللعين) “بحر بن كعب” بالسيف ليضرب الحسين (ع) فصاح الغلام: يا ابن الخبيثة أتضرب عمّي الحسين ؟ فغضب اللعين من كلامه فضرب الغلام بسيفه فاتقي الضربة بيده فأطنها الى الجلد فاذا هي معلقة فصاح الغلام : يا عماه لقد قطعوا يدي، ونظر الى أمه في باب الخيمه فنادي يا أماه لقد قطعوا يميني، فضّمه الحسين (ع) إليه فقال يا بن اخي اصبرعلى ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فان الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين. ورفع يده (ع) قائلا : (اللهم ان متعتهم الى حينٍ، ففرقهم تفريقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرِضِ الولاة عنهم ابداً، فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا، ورمي الغلامَ حرملةُ بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه.
الحسين (ع) صريعا تتناوشه عسلان الفلوات
بقي الحسين مطروحاً على الأرض ملياً ولو شاؤوا ان يقتلوه لفعلوا، الا ان كل قبيلة تتكل على غيرها وتكره الاقدام، فصاح الشمر (عليه لعنة الله): ما وقوفكم وما تنتظرون بالرجل وقد اثخنته السهام والرماح، احملوا عليه، فضربه (اللعين) “زرعة بن شريك” على كتفه الايسر ورماه (اللعين) الحُصين في حلقه وضربه (لعين) آخر على عاتقه وطعنه (اللعين) “سنان بن انس” في ترقوته ثم في بواني صدره ثم رماه بسهم في نحره، وطعنه (اللعين) “صالح بن وهب” في جنبه. قال هلال بن نافع كنت واقفاً نحو الحسين (ع) فرأيته يجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلا قط مضمخاً بدمه احسن منه ولا انور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله. فاستسقى (ع) في هذه الحال ماءً، فأبوا ان يسقوه، وقال له رجل لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها، فقال عليه السلام: (انا ارد الحامية ؟! وإنما ارد على جدي رسول الله واسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر واشكو اليه ما ارتكبتم مني وما فعلتم بي) فغضبوا بأجمعهم حتى كأن الله لم يجعل في قلب احدهم من الرحمة شيئاً.
وفاء فرس الحسين (ع)
واقبل فرس الحسين (ع) يدور حوله ويلطخ ناصيته بدمه فصاح (اللعين) عمر ابن سعد دونكم الفرس فانه من جياد خيل رسول الله (ص) فأحاطت به الخيل فجعل يرمح برجليه حتى قتل جماعةً، فقال ابن سعد دعوه لننظر ما يصنع، فلما أمن الجواد الطلب اقبل نحو الحسين (ع) يمرغ ناصيته بدمه ويشمه ويصهل صهيلا عالياً.
قال الامام أبو جعفر الباقر (ع) كان يقول: (الظليمة ، الظليمة ، من أمة قتلت ابن بنت نبيها)
وتوجه نحو المخيم بذلك الصهيل، فلما نظرن النساء الى الجواد مخزياً والسرج عليه ملويا، خرجن من الخدور على الخدود لاطمات، وبالعويل داعيات، وبعد العز مذللات، والى مصرع الحسين مبادرات.
فواحدة تحنو عليه تضُّمه **** وأخرى عليه بالرداء تظلل
وأخرى بفيض النحر تصبغ شعرها **** وأخرى تفّديه وأخرى ُتقبله
وأخرى على خوفٍ تلوذ بجنبه **** وأخرى لما قد نالها ليس تعقل
بنات الرسالة عند مصرع الحسين (ع)
ونادت أُم كلثوم (س): وا محمداه وا ابتاه وا علياه وا جعفراه وا حمزتاه، هذا حسين بالعراء، صريع بكربلا.
ونادت زينب (س): وا اخاه وا سيداه وا اهل بيتاه، ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل… وانتهت نحو الحسين (ع) وقد دنا منه (اللعين) عمر بن سعد في جماعة من أصحابه والحسين (ع) يجود بنفسه فصاحت زينب (س): أي عمر أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر اليه ؟ فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته الخبيثة، فقالت (س): ويحكم اما فيكم مسلم ؟ فلم يجبها أحد.
مصرع سيد شباب أهل الجنة
ثم صاح (اللعين) عمر بن سعد بالناس: انزلوا إليه وأريحوه، فبدر إليه (اللعين) شمر، فرفسه برجله، وجلس على صدره، وقبض على شيبته المقدّسة، وضربه بالسيف اثنتي عشرة ضربة، واحتز رأسه المقدس.
(( اَللّهُمَّ الْعَنْ اَوَّلَ ظالِمٍ ظَلَمَ حَقَّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَآخِرَ تابِعٍ لَهُ عَلى ذلِكَ ، اَللّهُمَّ الْعَنِ الْعِصابَةَ الَّتى جاهَدَتِ الْحُسَيْنَ ، وَشٰايَعَتْ وَبٰايَعَتْ وَتٰابَعَتْ عَلىٰ قَتْلِهِ ، اَللّٰهُمَّ الْعَنْهُمْ جَميعاً)).