إذا اعتبرنا أن حادثة كربلاء قد وجدت من خلال الإمام الحسين (عليه السلام) فإن الذي أحيا هذه الظاهرة وأوضحها وبينها هو السيدة زينب (عليها السلام).
تولت السيدة زينب (عليها السلام) بعد عصر اليوم العاشر من المحرم مسؤولية الحفاظ على ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وارسال خطابها وأهدافها وشعارها أي «هيهات منا الذلة» إلى أنحاء العالم.
واجهت السيدة زينب (عليها السلام) طريقاً مليئاً بالصعاب في هذه المهمة، حيث كان عليها أن تتحدث بين جماعة كأن آذانهم صم لا يسمعون وأعينهم عمي لا يبصرون، لا بل بين جماعة غارقة في الجهل والحماقة.
وعلى هذا الأساس كان عليها في هذه المرحلة التفكير ملياً واتخاذ القرارات والاستفادة من الفرص لتوقظ الناس من غفلتهم وتقدم لهم المعرفة والوعي ليشعروا بالمسؤولية وهذا يعني إعدادهم للثورة لاحقاً.
لقد أدت خطابات وكلمات السيدة زينب (عليها السلام) إلى إفشال المؤامرات المشؤومة التي كان يخطط لها اليزيديون.
أما أهم السياسات والأساليب التبليغية التي اتبعتها السيدة زينب (عليها السلام):
1 ـ البكاء وإقامة مجالس العزاء
بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، بدأت السيدة زينب تتحرك حول الأجساد الطاهرة، وتقول: «وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه. ثم قالت: ليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السهل»[1].
وعندما اقتادوها السيرة وعبروا بها من أمام الأجساد الطاهرة باقتراح من الشمر اللعين، انحنت السيدة زينب (عليها السلام) أمام جسد أبي عبد الله (عليه السلام) وقالت: «يا أخي لو خيرت بين الرحيل والمقام عندك لاخترت المُقام عندك ولو أنّ السباع تأكل من لحمي»[2].
وروى البعض أنها توجهت في هذه الأثناء نحو المدينة، ثم قالت: «وا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين مرمل بالدماء مقطع الأعضاء وبناتك سبايا»[3].
يقول الراوي أنها كانت تبكي بأسلوب جعلها كما يقول البعض: «فأبكت والله كل عدو وصديق»[4].
يتضح لنا من خلال هذه الأعمال التي قامت بها السيدة زينب (عليها السلام) أنها تريد تقديم دروس وعبر إلى جنود جيش العدو، كانت تريد منهم أن يدركوا الجريمة والجناية التي ارتكبوها، وأرادت منهم أن يدركوا بأن هذه المعركة كانت معركة مع القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأرادت السيدة زينب من خلال البكاء والعبارات التي كانت تتلفظ بها أن توقظ عواطف وأحاسيس الناس وتشجعهم على القيام والثورة ضد الظالمين اليزيديين.
عندما كانت السيدة زينب (عليها السلام) في الشام أقامت في منطقة يطلق عليها «دار الحجارة» مراسم عزاء على شهداء كربلاء، وكان لهذا المجلس من الآثار أن دفع المشاركين إلى التفكير بمهاجمة يزيد وقتله[5]. وبعد تحمل كل المصائب التي وقعت في كربلاء، نرى السيدة زينب (عليها السلام) تعود إلى المدينة لتقيم مراسم العزاء في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستمر هذا الوضع حتى فهمت القبائل والعشائر ما جرى في كربلاء وبدأ البعض منهم يفكر بالانتقام لشهداء كربلاء[6].
2 ـ الخطابة
عندما وصلت قافلة الأسرى إلى الكوفة تجمع الناس كباراً وصغاراً ونساءً ورجالاً عند البوابات والمعابر وذلك بهدف مشاهدة الأسرى، هناك كان بعض المتجمعين يبكي والبعض أتى للبهتان وآخرون كانوا منزعجين مما يحصل.
استجمعت السيدة زينب (عليها السلام) قواها ونظرت إلى الناس، فسكت الجميع فبدأت الخطابة وبكلمات وجمل دقيقة وقوية، قالت: «الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر أتبكون؟ فلا رقأتِ الدمعة ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصَّلف والنطف والصَّدر الشنف وملق الاماء وغمز الأعداء وهل أنتم إلا كمرعى على دمنةٍ أو كفضة على ملحودة…»[7].
تحدثت في البداية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعبرت عنه بكلمة «أبي» حيث أرادت بذلك تعريف الآخرين بالأسرى الموجودين في القافلة لتتضح النسبة بينها وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويفهم الحاضرون أي أشخاص هؤلاء الموجودون في القافلة. ثم أشارت إلى نقطة هامة تؤكد فيها على نقطة الضعف عند أهل الكوفة أي النكث بالعهود، حيث أرادت بذلك إخبارهم بخصالهم.
ثم تابعت الحديث في خطابها تتحدث عن شخصية الإمام (عليه السلام) حتى لا يبقى أي شك وترديد عند الناس وحتى لا يبقى أي عذر لديهم. كانت تتحدث مع الناس وتعتبرهم هم الذين قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) وآل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). نعم، لقد بدل خطابها الموقف حتى ضجت الكوفة بالصراخ والعويل. ورسمت السيدة زينب (عليها السلام) صورة أخرى عن القيامة جعلتها ماثلة أمام أعين الناس: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلً﴾[[8].
ولم تكتفي السيدة زينب (عليها السلام) بمخاطبة أهل الكوفة بل تحدثت في دار الامارة أمام ابن زياد بجرأة وقوة. وعند وصولها إلى الشام تحدثت بجرأة أمام يزيد موضحة ما اقترفته يده وفاضحة إياه أمام الملأ.
3 ـ ارتداء السواد
إن التدبير والتعقل كانا من العوامل الأساسية لموفقية ونجاح السيدة زينب (عليها السلام). وزينب (عليها السلام) معروفة بالتدبير والتعقل قبل قضية عاشوراء والأسر، حتى أنه أطلق عليها لقب عقيلة بني هاشم وعقيلة النساء…
بشكل عام كان للتدبير والتعقل دور كبير في نجاحها في أعمالها وإلا فلن تتمكن من مواجهة يزيد وأزلامه.
من جملة الأمور التي لجأت إليها السيدة زينب (عليها السلام) إقامة مجالس العزاء في الشام والمدينة وطلبت من النساء ارتداء السواد، فقالت: «إجعلوها سوداء حتى يعلم الناس أنّا في مصيبة وعزاء لقتل أولاد الزهراء (عليها السلام)».
صحيح أن الأعداء لا يهتمون بهذه الأمور ويعتبرونها غير ذات قيمة، إلا أن هذه الأعمال هي التي مهدت لقيام الناس للتأثر من قاتلي الإمام (عليه السلام).
4. الاستعانة بمبادئ نفسية
صحيح أن الحرب النفسية من ابتكار العلوم المعاصرة إلا أنه يجب القول بوجود هذا الأسلوب في الأصول السماوية وقد استعان أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الأصل. واستعانت السيدة زينب (عليها السلام) في حربها ضد الأعداء بهذا الأصل فكانت تبين في خطاباتها مدى حقارة وصغر العدو وتثني على الأصحاب وتحرك العواطف…
عندما خاطبت أهل الكوفة أكدت بداية على أصالة العائلة التي تنتمي إليها لذلك تحدثت عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قرأنا واصفة إياه بالأب لتلفت أنظار الناس إلى انتماء هؤلاء الأسرى… وفي أثناء مخاطبتها يزيد قائلة له: «كيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأذكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء…»[9].
وإذا قارنا بين خطبتي السيدة زينب في الكوفة والشام لوجدنا أنها كانت تعرف المخاطب، فالمخاطبون في الكوفة هم من الناس الجاهلين بما يجري من حولهم لذلك خاطبتهم بناءً على ما هم فيه وأطلعتهم على ما ارتكبوه. أما المخاطبون في الشام في مجلس يزيد فهم من الخواص العارفين بالأوضاع، لذلك اختلف لحن الخطاب.
ما تقدم هو خلاصة عن الأساليب التي اعتمدتها السيدة زينب (عليها السلام) في التبليغ وهناك أساليب أخرى يمكن الاشارة إليها كالشجاعة والشهامة والفصاحة والبلاغة…
عنايت الله شريفي – مجلة مبلغان – بتصرّف
[1] بحار الأنوار، ج6، ص54.
[2] معالي السبطين، ج2، ص55.
[3] عزاء آل محمد، ص393.
[4] معالي السبطين، ص31؛ بحار الأنوار، ج45، ص59؛ نفس المهموم، ص210.
[5] الجزائري، السيد نور الدين، الخصائص الزينبية، ص296.
[6] عماد زاده، حسين، زينب الكبرى (عليها السلام)، ص150.
[7] ترجمة اللهوف، 146 ـ 148.
[8] سورة الفرقان، الآية: 25.
[9] بحار الأنوار، ج45، ص133 ـ 135.