لزينب (عليها السلام) شأن مهم ودور كبير النطاق في قضية الحسين (عليه السلام)، وفي نساء العرب يندر أمثالها ممن قمن في مساعدة الرجال ومشاركتهم في تاريخهم المجيد، وقد صحبت زينب (عليها السلام) أخاها في سفره الخطير صحبة من تقصد أن تشاطره في خدمة الدين وترويج أمره، فكانت تدير بيمناها ضيافة الرجال وباليسرى حوائج الأطفال، وذاك بنشاط لا يوصف.
والمرأة قد تقوم بأعمال يعجز عنها الرجل طالما كان قلبها في ارتياح ونشاط، أما لو تصدع قلبها او جرحت منها العواطف فتراها زجاجة أو أرق، وكسرها لا يجبر، ولذلك أوصى بهنّ النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال: «ارفق بالقوارير» فجعلهن كزجاج القوارير تحتاج الى لطف المداراة.
فكانت ابنة علي (عليه السلام) قائمة بمهمات رحل الحسين وأهله غير مبالية بما هنالك من ضائقة عدو أو حصار أو عطش، إذ كانت تنظر في وجه الحسين (عليه السلام) تراه هشاً بشاً فتزداد به أملاً ـ وكلما ازداد الإنسان أملاً ازداد نشاطاً وعملاً، وانّ في بشاشة وجه الرئيس أثراً كبيراً في قوة آمال الأتباع ونشاط أعصابهم ـ غير أنّ زينب باغتت أخاها الحسين (عليه السلام) في خبائه ليلة مقتله فوجدته يصقل سيفاً له ويقول:
يا دهر أف لك من خليل***كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل***والأمر في ذاك الى الجليل
والمعنى: يا دهر كم لك من صاحب قتيل في ممر الإشراق والأصيل، فأفٍّ لك من خليل.
ذعرت زينب (عليها السلام) عند تمثل أخيها بهذه الأبيات، وعرفت أنّ أخاها قتيل لا محالة وإذا قتل فمن يكون لها؟ والعيال والصبية في عراء وغربة، وألد الأعداء محيط بهم ومتربص لهم الدوائر. لهذه ولتلك صرخت أُخت الحسين (عليه السلام) منادبة أخاها، وتمثل لديها ما يجري عليها وعلى أهله ورحله بعد قتله وقالت: «اليوم مات جدي وأبي وأُمي وأخي». ثم خرجت مغشيا عليها إذ غابت عن نفسها ولم تعد تملك اختيارها، فأخذ أخوها الحسين (عليه السلام) رأسها في حجره وسقط على وجهها من مدامعه حتى أفاقت وسعد بصرها بنظرة من شقيقها الحسين، وأخذ يسليها، فقال: «يا اختاه إنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، فلا يبقى إلاّ وجهه، قد مات جدي وأبي وأُمي وأخي وهم خير مني، فلا يذهبن بحلمك الشيطان» ولم يزل بها حتى أسكن بروحه روعها ونشف بطيب حديثه دمعها.
ولكن في المقام سر مكتوم: فإن زينباً (عليها السلام) تلك التي لم تستطع أن تسمع إشارة من نعي أخيها وهو حي، كيف تجلدت في مذبح أخيها وأهلها بمشهد منها، ورأت رأسه ورؤوسهم مرفوعة على القنا وتلعب بها الصبيان، وينكت ابن زياد ويزيد ثنايا أخيها بين الملأ بالقضيب، الى غير ذلك من مصائب لا تطيق رؤيتها الأجانب فضلاً عن أمس الأقارب.
فليت شعري! ما الذي حوّل ذلك القلب الرقيق الى قلب صلب متماسك؟ نعم، كانت شقيقة الحسين (عليه السلام) أخته بتمام معنى الكلمة، فلا غرو إنّ شاطرت سيّدة الطف زينب أخاها الحسين (عليه السلام) في الكوارث وآلام الحوادث، فقد شاطرته في شرف الأبوين ومواريث الوالدين خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً.
وعليه فإنّها على رقة عواطفها وسرعة تأثّرها تمكّنت من تبديل حالتها، والاستيلاء على نفسها بنفسها، من حين ما أوحى إليها الحسين (عليه السلام) بأسرار نهضته وآثار حركته وأنّه لا بد أن يتحمل أعباء الشهادة وما يتبعها من مصائب ومصاعب في سبيل نصرة الملة وإحياء شريعة جدّه وشعائر مجده ـ لكنه سيار يطوي السرى الى حد مصرعه في كربلاء ـ ثم لابد وأن تنوب هي عن أخيها في إنجاز مهمته وإبلاغ حجته في تحمل الخطوب وإلقاء الخطب ومكابدة الآلام من كربلاء الى الكوفة ثم الى الشام قائمة بوظيفته، محافظة على أسرار نهضته، ناشرة لدعوته في كل أين وآن، منتهزة سوانح الفرص، وهو معها أينما كانت يباريها لكنه على عوالي الرماح خطيباً بلسان الحال كما هي الخطيبة بلسان المقال.
المصدر: نهضة الحسين عليه السلام – بتصرف