يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾([1])، وهذه الآية الكريمة تأكد على حقيقة أن الدعاء هو من مصاديق عبادة الله سبحانه وتعالى، فهما يشتركان في حقيقة واحدة، هي إظهار الخشوع والخضوع لله تعالى، وهو هدف الخلق وعلته، قال تعالى:”وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”([2])، وهذا ما تشير إليه الروايات أيضاً، كالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “الدعاء مخّ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد”([3])، وعن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الدعاء هو العبادة”([4])، وفي رواية أخرى أن شخصاً سأل الإمام الباقر عليه السلام: أي العبادة أفضل؟ فقال عليه السلام: “ما من شيء أفضل عند الله عز وجل من أن يسأل ويطلب مما عنده”([5]).
وإذا كان الدعاء عبادة فهذا يعني أنّه مطلوب ومحبوب عند الله تعالى في جميع الحالات، وأنّه هدف بنفسه، ومصداق لأهم الأهداف الإلهية، كما هو واضح في الآية التي أشرنا إليها سابقاً ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
وهذا يفسر الروايات التي تحدثت عن التأخر في استجابة الدعاء بعض الأحيان، حيث ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله ليتعهّد عبده المؤمن بأنواع البلاء، كما يتعهّد أهل البيت سيّدهم بطرف الطعام، قال الله تعالى: “وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي إنّي لأحمي وليّي أن أعطيه في دار الدنيا شيئاً يشغله عن ذكري حتى يدعوني فأسمع صوته، وإنّي لأعطي الكافر منيته حتى لا يدعوني فأسمع صوته بغضاً له”([6]). وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: “إنّ المؤمن ليدعو الله عز وجل في حاجته، فيقول الله عز وجل: أخّروا إجابته شوقاً إلى صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل: عبدي، دعوتني فأخّرت إجابتك، وثوابك كذا وكذا، ودعوتني في كذا وكذا فأخّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا مما يرى من حسن الثواب”([7]). وعن الإمام الرضا عليه السلام: “إن الله يؤخّر إجابة المؤمن شوقاً إلى دعائه، ويقول: صوت أحبّ أن أسمعه…”([8]). وهذا كله يؤكد على أنّ الدعاء نفسه غاية، ولعل بركته في كثير من الأحيان أهمّ من بركة استجابة مضمونه.
الافتقار إلى الله تعالى
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامً﴾([9])، إن الدعاء والعبادة يعكسان الإحساس بالخضوع والفقر والرغبة فيما عنده تعالى، هذا الإحساس المتأصّل في وجدان الإنسان. والذي يظهر حتى عند الغافلين في بعض الظروف التي تستثير هذا الإحساس، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورً﴾([10])، ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾([11])، ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾([12]). وهذا كله يشير إلى حقيقة واحدة تشير إليها الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾([13]).
فالإنسان فقير محتاج لفيض الله ورحمته تعالى بشكل دائم ومستمر، وفي كل الظروف والأحوال، وعلى هذا القلب أن يكون خاشعاً متوجّهاً لله تعالى، شاعراً بهذا الفقر وهذه الحاجة، ملتمساً لذلك الفيض وتلك الرحمة في جميع الظروف والحالات، في الشدة والرخاء، وقد ورد عن رسول الله ص موصياً الفضل بن العباس: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة “([14])، وعن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه كان يقول: “ما من أحد ابتلي وإن عظمت بلواه أحقّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء”([15]). وعن الإمام أبي الحسن عليه السلام: “إن أبا جعفر عليه السلام كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تملّ الدعاء، فإنّه من الله عز وجل بمكان”([16]).
الدعاء، جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
([1]) غافر:60
([2]) الذاريات:56
([3]) المجلسي-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة – ج90 – ص 300.
([4]) الحر العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 هـ.ق..- ج 7 – ص 23.
([5]) الحر العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 هـ.ق..- ج7 – ص30.
([6]) المجلسي-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة – ج90 – ص 371.
([7]) الحر العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 هـ.ق..- ج7 – ص62.
([8]) المجلسي-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة – ج 90 – ص370.
([9]) الفرقان:77.
([10]) الإسراء: 67.
([11]) يونس: 12.
([12]) الروم: 33.
([13]) فاطر: 15.
([14]) الحر العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 هـ.ق..- ج 7 – ص42.
([15]) المصدر السابق
([16]) الحر العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 هـ.ق..- ج7 – ص61.