في ما قيل حول عاشوراء, السیرة الإمام الحســـين /
مدخل منهجي:
عديدة هي المناسبات الدينية التي تختزن قيما ومفاهيما وعادات وتقاليد لدى المجتمعات الإنسانية ولعل الدين عنوان متوغل القدم في حياة البشر، حيث لا يمكننا أن نتصور اجتماعا إنسانيا بعيدا عن الفكرة الدينية، بغض النظر عن صدقيتها أونوعيتها سماوية كانت أم أرضية، والمناسبة كعنوان هي ذات إتصال وثيق بالحادثة التاريخية لكل دين، فهؤلاء المسيحيون يحيون ميلاد المسيح عيسى عليه السلام على طريقتهم واستنادا للتراكمية التاريخية لهذه المناسبة في الوجدان المسيحي بالإضافة إلى التصورات المختلفة حول الميلاد لدى كل طائفة مسيحية، نفس الأمر تقريبا حاصل لدى اليهود إلا انه بنسبة أقل وغير واضحة تماما لان المجتمع اليهودي منغلق على الإنسانية وقابع في ترانيم أساطيره التاريخية، لهذا لا يمكنك التدقيق بسهولة في الحركة المناسباتية لدى اليهود مثل الديانات الأخرى، فهناك مفارقات عديدة بين الطوائف اليهودية…
أما نحن المسلمون لدينا مناسبات عديدة تتعلق بديننا الحنيف وإحياؤنا لهذه المناسبات يختلف بإختلاف المجتمعات الإسلامية وأيضا المذاهب الفقهية ونظرتها التحليلية لتلك المناسبة أو لنقل يتعدد من خلال محاور الاهتمام ووعي قيمة تلك المناسبة وأهدافها، ما يهمنا في هذا المقال المقتضب هي ذكرى ذات أثر بالغ العظمة في الوجدان الإسلامي وواسعة الحديث في التراث الإسلامي كله ومن لدن المدارس كلها، وعظيمة لأنها تمثل منطقة جوهرية في الإسلام زمانيا ورساليا… إنها عاشوراء، كلمة عربية تحدث عنها النبي الأكرم (ص) طيلة حياته الزكية الرسالية العظيمة، حيث تناولها رسولنا الحبيب (ص) من جميع الجوانب الحياتية.
ولعل خصوصية هذه الكلمة في حديث رسول الله (ص) وتركيزه عليها والدعوة للبقاء في رحابها لأنها قد ربطت بشخصية إسلامية عظيمة عبر الزمن كله، شخصية من عمق رسول الله (ص)، شخصية عاشت في مهد النبوة وترعرعت في جنة الإسلام واستمدت قوامها من بيت الحكمة الإسلامية، شخصية تمثلت رسول الله (ص) أجمل تمثيل رسالي منذ صغرها حتى شهادتها، حملت الحق روحا وموقفا وحركة وتطلعا، شخصية أحبها كل المسلمين ممن عايشوا رسول الله (ص) والتزموا القرب منه وآمنوا برسالته وحتى غير المسلمين المنصفين، شخصية لم تعش لذاتها قيد أنملة بل كانت بكلها من رسول الله فعاشت لله ورسول الله وللحق والصدق والعدل والإسلام الأصيل الذي يغني حياة الواحد منا تقوى وصبرا وإيمانا ونورا، لأنها نور من نور وزين السماوات والأرض وأحب الناس لأهل السماء منها لأهل الأرض كما أخبر عبد الله بن عمروبن العاص وعمر بن الخطاب (……) في روايات بكتب العامة…
إنه الإمام الحسين بن علي المرتضى وفاطمة الزهراء عليهم السلام، أرادنا المصطفى (ص) أن نستحضر عاشوراء في رحاب الحسين عليه السلام لأن عاشوراء موسى عليه السلام قد خلدها القرآن العظيم لكن عاشوراء الحسين أريد لها أن تموت بالرغم انها هي خالدة عبر الإسلام التاريخي من لدن أنبياء الله عليهم السلام، كون روح الحسين عليه السلام لم تأت كأية روح لتعيش بين الناس وتؤدي سيناريو في الدراما الإنسانية وتنال وسام الشهادة ثم ترتفع للبرزخ وتنتظر الحساب… أبدا، إنها من الأرواح المجندة التي لا تتوقف في الزمن والمكان، إنها روح تتجاوز الحياة الدنيا لتعود إليها حتى تغنيها بالحقيقة الناصعة التي ترشد التائهين وتنهض بالمستضعفين وتنصر المظلومين وتفضح المنافقين وتلم شعت المتفرقين، هي روح أريد لها أن تبقى رغما عن الحاسدين والحاقدين والمغضوب عليهم والضالين، روح من روح رسول الله والعكس صحيح، كونها بإنبجاستها النوارنية في عاشوراء استمر الصوت المحمدي مدويا في دنيا الناس متحديا لكل الظلم والإستكبار…
إلى هنا أتوقف لأن لي مع نور عيني وحبيبي وسيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين سرٌ لا أبوح به إلا لخاصة أحبائه، فالحسين في رحابه كل الفرح الصادق البعيد عن الحزن البليد… وعوداً للبدء هذه هي عاشوراء الحسين عليه السلام تحل علينا قادمة من ذكرى الهجرة النبوية آخرا ومن كربلاء التاريخ أولا وأبدا، لسنا بحاجة لاستطراد تاريخها وأسبابها ونتائجها فتلك مباحث موجودة بالكتب التاريخية المنصفة والهادفة من لدن المدرستين، ما يهمنا سؤال وحيد: ما سمة العلاقة بيننا نحن وعاشوراء الرسالة؟ حيث قبل الولوج لإيضاح مقاصد هذا الإشكال لابد أن ألفت أخي القارئ لمسألتين:
الأولى: نحن أقصد بها المسلمين وليس المذهب لأن الحسين من رسول الله ورسول الله من حسين وكلا المدرستين يقول باحترام الحسين إلا أنه هناك مفارقات منهجية في التعاطي مع شخصية الحسين واحترامها.
الثانية: عاشوراء كمناسبة تختزن تاريخا مكانيا رساليا، وخاضعة للتشريع الإسلامي الوارد من رسول الله بخصوصها وليس العرف الإجتماعي والتوجه التقليدي الوراثي الذي كثيرا ما يعطي للمناسبة سياقات بعيدة عن الأصالة الإسلامية المحافظة على روح المسؤولية لدى الشخص المسلم.
هناك مسائل لابد منها عند محاولة استشراف أي أمر أوتطلع أومشروع، كما أن من العقل أن يتحرى المرء كل أفعاله وانفعالاته قبل إصدارها وإلا كان أحمقا لا يدرك كل ما يصدر عنه، أعمى في حياته بلا بصيرة وهذا عين مرض القلب، وعليه من المجدي والنافع للمسلم النبيه أن يراجع حقائق المناسبات من مصادرها ويتحقق من صحة الروايات وتفاصيل التاريخ وإلا كان تعاطيه بجهل كمن يشرب دواءا بلا معرفة هل ينفعه لدائه أوبلا اتصال بطبيب أو صيدلي ليرشده للدواء السليم، حتى يكون إنساننا المسلم واعيا لمسؤوليته عارفا بتاريخه الإسلامي وشخصياته ورسالته الإسلامية ومسؤوليته وحتى يكتسب بصيرة لإسلامه يتوجب استنهاض كل القدرات الفكرية والأدبية والروحية لمراجعة خريطة الذات والإجتماع الذي يعيش ضمن دائرته وحتى يمكنه قراءة الصحيح من السقيم في الفكر والتراث والعادة والعبادة وما هنالك مما يتعلق بثقافة المتدين، حيث ثقافة المتدينين هي غير ثقافة الدين، فيها الغث والسمين فيها الأصيل والأيديولوجي، فيها العقلانية والهوى وهلم جرا مما يفسد الروح العلمية عند غالبية المتدينين.
لهذا فالتعامل والتفاعل مع عاشوراء لا يكون صحيحا إلا من خلال وعي روح عاشوراء أي رسالتها للأجيال المسلمة والإنسانية جمعاء، وإذا كنا فعلا نريد أن نرتب بيتنا الإسلامي بما يهيؤه لان يكون صورة للتمدن الإسلامي والحضارة الإسلامية السمحاء التي تملأ العقل والقلب والحياة بالحق والصدق، فهذا طموح بحاجة لهمة روحية وإرادة فكرية وتجربة حركية إصلاحية لا تخشى لومة لائم لتقف أمام كل ما من شانه تشويه رسالة عاشوراء الحسين أوطمسها أواستثمارها في مشاريعه الذاتية، فعاشوراء الحسين لم تكن حكرا لمذهب دون مذهب ولم تتحدث بإسم طائفة دون أخرى كانت الفيصل بالنسبة لشبهة الباطل بالحق فأماطت اللثام عن الإسلام المزيف ولم يكن في خطابها سوى لا إله إلا الله محمد رسول الله.
عاشوراء أنجبت رجالا يصنعون البسمة على وجوه المظلومين، عاشوراء الحسين رسالة حضارية، توحي بأن البناء الحضاري بحاجة إلى ثقافة حضارية إسلامية محمدية تغني الوجود بالتوحيد الصافي، إنها عنوان الرشاد الإنساني الثائر على الظلم والإستدمار والاحتقار والهون والذلة، إنها ثقافة الإصلاح الجذري، من الخلجة القلبية إلى الحركة الإسلامية، كانت تقويما لهدفية الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج في رحاب معامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عاشوراء الرسالة هي مجلس افتراضي علمي فقهي ثقافي ثوري وأناقش الخطيب وأرتفع بوعي الجماهير من العقل الجمعي إلى العقل الرسالي، عاشوراء تجديد للحياة الإسلامية بدون المساس بحلال محمد وحرامه الذي يبقى حتى يوم القيامة، عاشوراء سلام إسلامي لكل الإنسانية بأن القضية الحسينية لم تكن انتفاضة جوفاء للإخلال بأمن الدولة الإسلامية بل كانت نهضة سياسية في قلب الأمة الإسلامية للحفاظ على قيمة الإنسان الكبرى الحرية وروحه الكرامة…
هكذا عاشوراء يمكنها أن تعقلن واقعنا وتوحده وتجمعه وتصنع منه قوة حسينية علوية محمدية إسلامية عظمى، تزكي النفوس وتصلح الأحوال وتنشر السلام وتؤمن التعارف والتواصل والتعايش… عاشوراء الإسلام هي أن نفتح قلوبنا لنور الحسين وعقولنا لمواعظ الحسين وبيوتنا لأمة جد الحسين… عاشوراء الإسلام أن تتحدث إسلاميا بإسم الحسين، أن تكون حسينيا فتنصر كل المسلمين حيثما وجدوا… عاشوراء ليست مزاجا أومهرجانا أوفولكلورا شعبيا، لعاشوراء قيمة إسلامية عظمى فيها الصلاة لله وعلى رسوله وآله الأطهار وصحبه الكرام والصوم عن الحقد والكذب والسباب والتكفير والمكر والبهتان وظلم النساء والولدان وزكاة للنفس من جورها وفجورها وهواها وحج بالقلب والعقل إلى طيبة فمكة فالكوفة فكربلاء وتحليق في رحاب العالم الإسلامي…
هذه هي عاشوراء إنها ثورة على الذات والمجتمع عندما يسقط كلاهما رساليا في معترك صراع إرادات الحق والباطل… ويبقى لعاشوراء ذلك الصوت الصاخب على نحن لان يراجع حركته وقيمته ورسالته في كل تحريكة عبر الزمن والمكان والحياة كلها، وحتى لا يكون الإسلام لعق على ألسنتنا كما حدثنا الإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء العاشر من محرم فقط…
تعالوا نتواضع لإسلامنا وشخصياته العظيمة ونستلهم منها الرسالية والبصيرة والصبر والحكمة والنباهة لنكون أهلا للإنتساب والإنتماء للإسلام في عاشوراء الحياة وكل المناسبات الإسلامية التي تركز الوحدة وتخطط التنوع لخدمة رسالة التوحيد في العالم وليس العكس… لنحدث زوجاتنا وأولادنا وأهلنا وأحباءنا وجيراننا عن عاشوراء الإسلام نطلق ثقافة عاشوراء مع ثقافة الوحدة والتعايش ونصد ثقوب الخصام بحب الحسين وآله الأطهار وصحبه الأبرار، فكروا واعملوا لأن يبقى الحسين عنوانا إسلاميا يعطي للإنسانية ثقافة الحياة الإسلامية ولا تقحموا الحسين في خلافاتكم الوهمية، حدثوا الناس عن الحسين عليه السلام الذي حدث كل الناس كجده رسول الله (ص) وأبيه المرتضى (ع) وأمه الزهراء (ع) وأخيه المجتبى (ع)، عرفوا بناتكم وزوجاتكم وأمهاتكم وأخواتكم إسلاميا عن العقيلة زينب عليها السلام والسيدة رقية والسيدة سكينة وأم البنين، جالسوا شبابكم بالحديث عن القاسم وعلي الأكبر وذلك الشاب الذي أنشد قائلا:
أميري حسين ونعم الأمير ** سرور فؤاد البشير النذيـر
علي وفاطمة والـداه ** فهل تعلمون له مـن نظير
له طلعة مثل شمس الضحى ** له غـرة مثـل بـدر منير
وقصوا لشيوخكم عن حبيب بن مظاهر الأسدي وزهير بن القين ومسلم بن عسوجة وكهولكم عن مسلم بن عقيل والحر بن زياد الرياحي والإمام العباس عليه السلام… أطلقوا قناة بإسم الحسين تجمع المسلمين وتصلح أحوالهم وتكون منبرا لبعث ثقافة الحسين الإسلامية بعيدا عن الاحتقان المذهبي والعقدة الطائفية… هكذا لعل وعسى نقترب من عاشوراء لنعيشها بصدق وحق وعدل ورسالة تشع بنور الإسلام المحمدي الوجود الحسيني البقاء ونقدر أن نتحاور مع المسيحي من خلال الحسين فندع سيرة الحسين تعرفه عن حقيقة المسيح عليه السلام…
اليوم نحن بحاجة للمرحمة أيها المسلمون فالحسين عليه السلام عاش الإسلام الرحمة لأنه من رسول الله فبقي بجنب جده وأبيه وأمه وأخيه لينشروا الرحمة على العالمين بإذن الله، فماذا يا من تحب الحسين عليه السلام صدقا وعدلا؟ هل تتقن نشر الرحمة أم انك لا تعرف إلا التظلم والسباب والتكفير والفرقة؟ يكفي أيها المسلمون لا تكونوا أحبة الحسين وفي رحاب عاشوراء الرسالة إلا إذا عشتم الإسلام الأصيل كما عاشه الإمام الحسين عليه السلام…
السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا سيدي ومولاي ونور قلبي وإمامي وبصيرتي وقدوتي والسلام على جدك المصطفى وأبيك المرتضى وأمك المعصومة وأخيك المجتبى وعلى الأئمة من ولدك والصحابة الكرام ولا جعله الله آخر العهد مني إليكم يا عباد الله الصالحين…
الكاتب: غريبي مراد عبد الملك