في مثل هذا اليوم الاربعاء، الاول من صفر سنة 122هـ أعلن زيد ابن الامام علي السجاد (عليهما السلام) ثورته على الحكم الاموي في الكوفة، حيث انتهت الثورة في مساء اليوم الثاني إثر اصابته بسم اصاب جبهته المقدسة، واستشهد في يوم الجمعة الثالث من صفر، وتعتبر ثورة زيد (ع) من أبرز الثورات التي قامت بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) التي نسفت حواجز الخوف في نفوس الأمة وحركت الوعي السياسي والفكري والجهادي.
مثلت الثورة الحسينية نقطة تحوّل عظمى في تاريخ الأمة الإسلامية وصارت رمزاً للثورات التي تلتها ضد الظلم وطغيان السلطة الأموية، فضلا عن تفشي الفساد في المجتمع الإسلامي وإعلان الأمويين الكفر الصريح بالإسلام ومحاربتهم الخط الرسالي الصحيح المتمثل بأهل البيت (ع) حتى وصل الأمر أن دخل زيد بن علي (ع) على الطاغية “هشام بن عبد الملك” فسمع زيد (ع) رجلاً من جلساء هشام وهو يسبّ النبي (ص) فنهره زيد. فقال هشام: مهلا يا زيد لا تؤذي جليسنا !!
زيد على مائدة أهل البيت:
ولد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) في المدينة المنورة في كنف العلم وبيت الهداية ومجمع الفضائل ومنبع الوحي وصرح الإباء والشرف في سنة (80هـ) وعمره الشريف يوم استشهاده (42 سنة) وكانت سنة استشهاده (122هـ)
عاش زيد الشهيد مع أبيه الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهم السلام) خمسة عشر عاماً فأخذ منه معالم الإمامة والقيادة قبل فيض الأبوة، ولما استشهد الإمام زين العابدين كفل زيداً أخوه الإمام محمد الباقر (عليه اسلام) فغذاه بالعلم والتقوى فتوفرت لزيد مائدة أهل البيت السخية، فكمل بناؤه الفكري والأخلاقي على يدي أبيه وأخيه (عليهما السلام) واستمدت ملامحه الشخصية منهما فسار على خطهما الرسالي المحمدي معترفاً بإمامة أخيه محمد الباقر (ع).
أما أمه فهي جارية يقال لها “حواء” أهداها “المختار بن أبي عبيدة الثقفي” (رض) إلى الإمام زين العابدين (ع).
وقد روي أن الإمام زين العابدين (ع) كان يصلي صلاة الفجر عندما بُشّرَ بزيد، ففتح المصحف الشريف ونظر فيه فإذا في أول الصفحة: (فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً)، ثم أطبقه وفتحه ثانية فنظر فإذا في أول الورقة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم). فقال (ع) هو والله زيد هو والله زيد.
منطلقات الثورة
يمكن معرفة الدوافع الرئيسية لثورة زيد (ع) حيث قال: (إني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه وإحياء السنن وإماتتة البدع فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل).
وقال (سلام الله عليه): (وإنما خرجت على بني أمية لأنهم قتلوا جدي الحسين (ع) وأغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيت الله بالمنجنيق والنار).
وهناك أسباب ودوافع أخرى للثورة منها المؤامرة القذرة التي حاك خيوطها (اللعين) يوسف بن عمر الثقفي والي العراق من قبل الطاغية هشام الاموي الذي ادعى أن “خالد بن عبد الله القسري” الوالي السابق كان قد أعطى زيداً (ع) ستمائة ألف درهم وكتب بذلك إلى “هشام” وكان “يوسف” هذا قد اشتهر بولائه الشديد للأمويين بقدر بغضه الشديد للعلويين.
وظل يوسف يحيك الدسائس على زيد حتى أرسل هشام يطلب زيداً منه فلما دخل عليه قال هشام: (أنت المؤهل نفسك للخلافة، الراجي لها وما أنت وما ذاك، لا أم لك وإنما أنت ابن أمة). فقال له زيد (ع): (إني لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، فالنبوة أعظم منزلة عند الله من الخلافة يا هشام، وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول الله (ص) وهو ابن علي بن أبي طالب (ع)). فوثب هشام من مجلسه وقال: (لا يبيتن هذا في عسكري فخرج زيد (ع) وهو يقول: (لم يكره قوم قط حر السيوف إلا ذلوا) وسُمِعَ يقول: (فوالله لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه ــ أي هشام ــ وجاهدته حتى أفنى).
الكوفة مرة أخرى
لقد اختار زيد الكوفة منطلقاً لثورته فهي المدينة الوحيدة التي زخر تاريخها السياسي بمواجهة النظام الأموي وهي قاعدة المعارضة الشيعية الدائمة للشام، وأقبل الناس يختلفون إليه ويبايعونه حتى أحصي ديوانه فكان خمسة عشر ألف رجل سوى أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان والجزيرة، وقيل إن عدد المبايعين بلغ أربعين ألفاً وقد بايعه كبار الفقهاء، وكان أبو حنيفة يفتي سراً بالجهاد معه ودعم الثورة بالمال والخروج معه.
الملحمة البطولية:
خرج زيد في غير الوقت الذي عينه مع أصحابه بعد أن انكشف أمره عن طريق الجواسيس المندسين في صفوفه، فقام والي الكوفة بعدة إجراءات لوأد الثورة قبل قيامها، فجمع أهل الكوفة في المسجد ومنعهم من الخروج لشؤونهم حتى إلقاء القبض على زيد (ع) وقتله، لذلك قرر زيد الخروج قبل الوقت المحدد فدعا أتباعه إلى الخروج في ليلة شديدة البرد وكانت ليلة الأربعاء فلم يجب دعوته سوى مائتين وخمسة عشر رجلا، فخرجوا وهم يوقدون النيران في المشاعل إيذانا بإعلان الثورة تحت شعار (يا منصور أمت)، وواجه زيد بهذه القلة جيشاً منظماً تعداده “خمسة عشر ألف” مقاتل لكنه لم يتراجع ولم يهن وصمم على القتال فحاول السيطرة على الكوفة وفك الحصار عن أصحابه المحبوسين في المسجد لكنه لم يستطع لكثرة الجيش الأموي ولإحكام الحصار على المسجد وقلة أنصاره، فكان جند الوالي الاموي يرمون زيداً وأصحابه بالسهام من فوق أسوار المسجد، فانسحب زيد (ع) وقرر مقاتلة الجند خارج الكوفة، فاصطدم بقوة قوامها خمسمائة رجل فهزمهما
وهو يرتجز:
أذل الحياة وعز الممات *** وكلا أراه طعــــــــــــاماً وبيلا
فإن كان لا بد من واحد *** فسيري إلى الموت سيراً جميلا
واصطدم بقوة أخرى في الكناسة وهزمهم أيضاً وهو يرتجز:
السيف يعرف عزمي عند هزته *** والرمح بي خبر، والله لي أزر
إنا لنأمل ما كـــــــــــانت أوائلنا *** من قبل تأمـــله إن ساعد القدر
وانتهى أول يوم للثورة بانتصار ساحق لزيد وفي الليل التحق به بعض أنصاره الذين استطاعوا فك الحصار بعد أن ترددت أخبار انتصاراته التي بثت الرعب في قلوب جند والي الامويين.
الشهادة:
وفي اليوم التالي الخميس (الثاني من صفر سنة 122 هـ) عبأ يوسف بن عمر جيش الشام بعد أن جاءته تعزيزات وإمدادات فاصطدم بزيد (ع) وانصاره وقد قل أصحابه وبقي معه القلة القليلة من المخلصين وفي هذا اليوم، فقد زيد (ع) واحداً من أكفأ أصحابه وأشجعهم وهو “نصر بن معاوية” الذي ضرب المثل الأعلى في الصبر والعزيمة والثبات والشجاعة، وقد قال لزيد عند خروجه: (إنما علي أن أضرب بسيفي حتى أموت). وكان هذا الرجل يمثل الذراع الأيمن لزيد (ع)، وكثر القتل في أصحابه فبان النقص فيهم، ثم قُتل “معاوية بن إسحاق” والذي كان بمنزلة “نصر” في الشجاعة والإخلاص، ثم ضُرب زيد (ع) بسهم في جبهته فبلغ دماغه فسقط وحمله من بقي من أصحابه وطلبوا طبيباً لانتزاع السهم، فقال له الطبيب: (إنك إن نزعته مت الآن). فقال زيد (ع) الموت أهون عليَّ مما أنا فيه. فسحب الطبيب كلبتي السهم فانتزعه ففاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.
قبر زيد الشهيد:
حفر له أصحابه قبراً وسط ساقية ودفنوه فيه وردموها ووضعوا عليها النبات، وكان في تلك المنطقة عبداً سندياً كان يراقبهم وهم لا يعلمون بوجوده، فلما انتهوا وتفرقوا أسرع العبد وأخبر “يوسف بن عمر” الذي استخرجه وقطع رأسه وأرسله إلى هشام فأرسله الطاغية هشام إلى المدينة فعلق عند قبر رسول الله (ص) ثم أرسل إلى مصر حيث طيف به هناك، أما الجسد الطاهر فصُلب منكوساً بسوق الكناسة وصلب معه اصحابه، وبقي مصلوبا على هذا الحال طيلة أربع سنوات ولما مات الطاغية هشام وولي من بعده الوليد بن عبد الملك كتب إلى حاكم الكوفة يوسف بن عمر كتابا يأمر به بأن ينزل الجثمان المقدس ويحرقه بالنار وقام ولي الكوفة بإحراق الجسد وذره في الفرات وهو يقول: والله يا أهل الكوفة لأدعكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم.
زيد عند أهل البيت (ع):
لقد مضى زيد شهيداً راضياً مرضياً عند أئمة أهل البيت (ع) فعندما سمع الإمام الصادق (ع) بخبر استشهاده بكى ثم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون .. عند الله احتسب عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم)
وقال (ع) أيضا: (ما مضى والله زيد وأصحابه إلا شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه)
وتتجلى مكانة زيد (ع) السامية عند الله تعالى وأهل البيت في قول الإمام الصادق: (رحمه الله، أما أنه كان مؤمناً، وكان عارفاً، وكان عالماً، وكان صدوقاً، أما أنه لو ظفر لوفى، أما إنه لو ملك لعرف كيف يضعها).
وقال الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في حقه: (كان عمي زيد من علماء آل محمد، غضب لله عز وجل فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله، ولم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى من ذاك، إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد) ثم روى عن أبيه عن جده الصادق قوله: (ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه).
سلام الله على زيد الشهيد يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبحث حيا عند مليك مقتدر يأخذ بحقه من الظالمين.