والتفت يزيد الى السجاد عليه السلام وقال: كيف رأيت صنع الله يا علي بأبيك الحسين؟ قال: رأيت ما قضاه الله عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض! وشاور يزيد من كان حاضراً عنده في أمره فاشاروا عليه بقتله! فقال زين العابدين عليه السلام: يا يزيد لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما اشار به جلساء فرعون عليه حين شاورهم في موسى وهارون فانهم قالوا له: أرْجِهِ واخاه ولا يقتل الادعياء اولاد الأنبياء وابناءهم فأمسك يزيد مطرقا.
ومما دار بينهما من الكلام أن قال يزيد لعلي بن الحسين عليه السلام: “ماأصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم” قال علي بن الحسين: ما هذه فينا نزلت انما نزل فينا “ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. فنحن لا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا”.
فأنشد يزيد قول الفضل بن العباس بن عتبة:
مهلا بني عمَّنا مهلا موالينا***لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً
ثم استأذنه عليه السلام في ان يتكلم فقال يزيد: نعم على ان لا تقل هجراً قال عليه السلام: لقد وقفت موقفاًلا ينبغي لمثلي ان يقول الهجر ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو يراني على هذه الحال؟ فأمر يزيد بأن يفك الغل منه.
وأمر يزيد الخطيب ان يثني على معاوية وينال من الحسين وآله فأكثر الخطيب من الوقيعة في علي والحسين فصاح بن السجاد عليه السلام: لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار:
أعلى المنابر تعلنون بسبّه***وبسيفه نُصِبَتْ لكم أعوادها
وقال ليزيد: أتأذن لي أن أرقى هذه الاعواد فأتكلم بكلام لله تعالى رضى وهؤلاء أجر وثواب فأبى يزيد وألح الناس عليه فلم يقبل فقال ابنه معاوية: إئذن له، ما قدر ان يأتي به؟ فقال يزيد: ان هؤلاء ورثوا العلم والفصاحة وزقُّوا العلم زقَّاً وما زالوا به حتى اذن له.
فقال عليه السلام: الحمد لله الذي لا بداية له، والدائم الذي لا نفاد له، والاول الذي لا اولية له، والآخر الذي لا آخرية له، والباقي بعد فناء الخلق، قدر الليالي والأيام، وقسم فيما بينهم الاقسام، فتبارك الله الملك العلام، الى أن قال:
أيها الناس أعطينا ستاً وفضلنا بسبع أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين وفضلنا بأنَّ منّا النبي والصديق والطيار وأسد الله واسد رسوله وسبطا هذه الامة،
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفْني انبأته بحسبي ونسبي ايها الناس أنا ابن مكة ومنى، انا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى وخير من طاف وسعى، وحج ولبّى، انا ابن من حُمِل على البراق وبلغ به جبرئيل سدرة المنتهى، فكان من ربه كقاب قوسين او أدنى، انا ابن من صلى بملائكة السماء، انا ابن من اوحى اليه الجليل ما اوحى انا ابن من ضرب بين يدي رسول الله ببدر وحنين، ولم يكفر الله طرفة عين، انا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين، ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين ومفرق الاحزاب اربطهم جأشا وأمضاهم عزيمة ذاك أبو السبطين الحسن والحسين، علي بن أبي طالب. انا ابن فاطمة الزهراء، وسيدة النساء، وابن خديجة الكبرى. انا ابن المرمل بالدماء، انا ابن ذبيح كربلا، انا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء وناحت الطير في الهواء.
فلما بلغ الى هذا الموضع ضج الناس بالبكاء وخشي يزيد الفتنة فأمر المؤذن ان يؤذن للصلاة فقال المؤذن: الله اكبر.
قال الإمام: الله اكبر وأجل وأعلى واكرم مما اخاف واحذر، فلما قال المؤذن: أشهد ان لا إله إلا الله قال عليه السلام: نعم اشهد مع كل شاهد ان لا إله غيره ولا رب سواه فلما قال المؤذن: اشهد ان محمداً رسول الله قال (الامام) للمؤذن: اسألك بحق محمد أن تسكت حتى اكلم هذا!
والتفت الى يزيد وقال: هذا الرسول العزيز الكريم جدك ام جدي؟ فان قلت جدك علم الحاضرون والناس كلهم انك كاذب وإن قلت جدي فلم قتلت أبي ظلماً وعدواناً وانتهبت ماله وسبيت نساءه فويل لك يوم القيامة إذا كان جدي خصمك.
فصاح يزيد بالمؤذن: اقم للصلاة فوقع بين الناس همهمة وصلى بعضهم وتفرق الآخر.