قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾([1]).
الموضوع المهم الذي تشير إليه الجملة السابقة فإذا عزمت فتوكل على الله هو أن إتخاذ القرار الأخير يجب أن يقترن بالتوكل على الله، بمعنى أن عليكم أن تستمدوا العون من الله القادر المطلق ولا تنسوه في الوقت الذي تهيئون فيه الأسباب العادية والوسائل المادية للأمر. على أن التوكل لا يعني بالمرة أن يتجاهل الإنسان الأسباب المادية والوسائل العادية للنصر والتي جعلها الله سبحانه في عالم المادة، ومكن الإنسان الأخذ بها، فقد روي في حديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأعرابي حضر عند النبي وقد ترك ناقته سادرة في الصحراء دون أن يعقلها حتى لا تفر أو تضل، ظنا بأن هذا من التوكل على الله “أعقلها وتوكل”. أجل ليس المراد من التوكل هو هذا المفهوم الخاطئ، بل المراد منه هو أن لا ينحصر الإنسان في حصار هذا العالم المادي، وفي حدود قدرته الضيقة، فلا ينطلق قدما إلى الأمام، بل يعلق أمله – إلى جانب الأخذ بالأسباب – على عناية الله وحمايته ولطفه ومنه. ولا ريب أن مثل هذه الالتفاتة تهب للإنسان استقرارا نفسيا عاليا، وطاقة روحية فعالة، ومعنوية تتضائل أمامها كل الصعاب والمشاق، وتتحطم عندها كل أمواج المشكلات العاتية، أو تنزاح أمامها كل الأهوال. ثم إنه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على الله فحسب لأنه تعالى يحب المتوكلين إذ يقول: إن الله يحب المتوكلين. هذا ويستفاد من هذه الآية أن التوكل يجب أن يكون بعد التشاور، وبعد الأخذ والاستفادة من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتما.
نتيجة التوكل وثمرته:
بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في هذه الآية – التي هي مكملة للآية السابقة – نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وهو بهذا يشير إلى أن قدرة الله فوق كل القدرات، فإذا أراد بعبد خيرا وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض – مهما عظمت – أن تتغلب عليه، فمن كان – هكذا – منبع كل الانتصارات، وجب التوكل عليه، واستمداد العون منه. فهذه الآية تتضمن ترغيبا للمؤمنين بأن يتكلوا على الله وقدرته التي لا تقهر، مضافا إلى تهيئة كل الوسائل الظاهرية، والأسباب العادية. والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر له في الحقيقة ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنها تقول لهم: إن عليهم أن يتوكلوا على الله كما يفعل النبي، ولهذا يختم هذه الآية بقوله: وعلى الله فليتوكل المؤمنون. ولا يخفى أن تأييد الله للمؤمنين أو عدم تأييده ليس من غير حساب، فهو يتم بناء على أهليتهم لذلك. فمن أعرض عن تعاليم الله، وغفل عن تحصيل المقومات المادية والمعنوية وتقاعس عن إعداد القوى العادية اللازمة لم يشمله التأييد الإلهي مطلقا، على العكس من الذين استعدوا لمواجهة الأعداء بصفوف متراصة ونيات خالصة وعزائم راسخة، مهيئين كل الوسائل اللازمة للمواجهة، فإن تأييد الله سيشمل هؤلاء، وستكون يد الله معهم حتى تحقيق الانتصار.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
([1]) سورة آل عمران: 159.