في السیرة النبي الأعظم /
اليوم الغرب يشنون حرب شعواء في الإساءة إلى نبي الرحمة صل الله وعليه وآله وسلم وإلى المقدسات الإسلامية مثل القرآن الكريم وعلى المسلمين كافة بالقتل والتعذيب والظلم الذي يجري.
لما اشتد مرض النبي صلى الله عليه وآله اجتمع الصحابة في داره، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ايتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، فقال احد الصحابة: ان رسول الله قد غلبه الوجع عندكم القرآن حسبنا كتاب الله (1( .
وهكذا وقع التنازع والاختلاف وقالت النسوة من وراء الحجاب: ائتوا رسول الله صلى الله عليه وآله بحاجته.
فقال صحابي: فانكن صويحبات يوسف اذا مرض عصرتنّ اعينكن واذا صحّ أخذتنّ بعنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هن خير منكم (2) . ثم قال: قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.
وكم كانت الامة بحاجة ماسة الى كتاب الرسول صلى الله عليه وآله هذا، حتى أن ابن عباس كان يأسف كلما يذكر ذلك ويقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (3).
ولم يصر نبي الرحمة على كتابة الكتاب بعد اختلافهم عنده خوفاً من تماديهم في الاساءة وانكارهم لما هو اكبر.
فقد علم صلى الله عليه وآله بما في نفوسهم، وحين راجعوه ثانية بشأن الكتاب قال صلى الله عليه وآله: أبعد الذي قلتم؟! وأوصاهم ثلاث وصايا، لكن كتب التأريخ لم تذكر سوى اثنين منها وهما: اخراج المشركين من جزيرة العرب واجازة الوفد كما كان يجيزهم.
وعن موسى بن جعفر عليهما السلام قال: لما كانت الليلة التي قبض النبي صلى الله عليه وآله في صبيحتها دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأغلق عليه وعليهم الباب.
وقال: يا فاطمة وادناها منه فناجاها من الليل طويلاً فلما طال ذلك خرج علي ومعه الحسن والحسين عليهم السلام وأقاموا بالباب والناس خلف الباب ونساء النبي ينظرون إلى علي عليه السلام ومعه ابناه.
فقالت عائشة: لأمر ما أخرجك منه رسول الله صلى الله عليه وآله وخلا بابنته دونك في هذه الساعة فقال لها علي عليه السلام: قد عرفت الذي خلا بها وأرادها له وهو بعض ما كنت فيه وأبوك وصاحباه مما قد سماه فوجمت دون أن ترد عليه كلمة.
وقال علي عليه السلام: فما لبثت أن نادتني فاطمة فدخلت على النبي صلى الله عليه وآله وهو يجود بنفسه فبكيت ولم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال يجود بنفسه فقال لي: ما يبكيك يا علي ليس هذا أوان البكاء فقد حان الفراق بيني وبينك.
فاستودعك الله يا أخي فقد اختار لي ربي ما عنده وإنما بكائي وغمي وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي فقد أجمع القوم على ظلمكم وقد استودعتكم الله وقبلكم مني وديعة يا علي إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة.
ثم ضمها إليه وقبل رأسها وقال: فداك أبوك يا فاطمة.
فعلا صوتها بالبكاء ثم ضمها إليه وقال: أما والله لينتقمن الله ربي وليغضبن لغضبك فالويل ثم الويل للظالمين.
ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وآله قال علي عليه السلام: فو الله لقد حسبت بضعة مني قد ذهبت لبكائه حتى همئت عيناه مثل المطر حتى بلت دموعه لحيته وملاءة كانت عليه وهو يلتزم فاطمة عليها السلام لا يفارقها ورأسه على صدري وأنا مسنده والحسن والحسين يقبلان قدميه ويبكيان بأعلى أصواتهما.
قال علي: فلو قلت أن جبرئيل في البيت لصدقت لأني كنت أسمع بكاء ونغمة لا أعرفها وكنت أعلم أنها أصوات الملائكة لا أشك فيها لأن جبرئيل عليه السلام لم يكن في مثل تلك الليلة يفارق النبي ولقد رأيت بكاء منها أحسب أن السموات والأرضين قد بكت لها.
ثم قال لها: يا بنية الله خليفتي عليكم وهو خير خليفة والذي بعثني بالحق لقد بكى لبكائك عرش الله وما حوله من الملائكة والسموات والأرضون وما فيها.
وروى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الليلة التي كانت فيها وفاته لعلي عليه السلام: يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة، فأملاه رسول الله صلى الله عليه وآله وصيته.
حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال: يا علي إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعده اثنا عشر مهدياً فأنت يا علي أول الاثني عشر إمام، سماك الله في السماء علياً المرتضى وأمير المؤمنين والصديق الأكبر والفاروق الأعظم والمأمون والمهدي فلا يصلح أن تكون هذه الأسماء لأحد غيرك.
يا علي أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم وعلى نسائي فمن ثبتها لقيتني غداً ومن طلقتها فأنا بريء منها لم ترني ولم أرها في عرصة القيامة.
وأنت خليفتي على أمتي من بعدي فإذا حضرتك الوفاة سلمها إلى ابني الحسن البر الوصول.
ثم ذكر كل واحد واحد من الأئمة عليهم السلام وأن يسلمها إلى الإمام الذي بعده إلى أن تسلم إلى الإمام الثاني عشر صلوات الله عليهم أجمعين.
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال في قوله تعالى: ولا يعصينك في معروف: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفاطمة عليها السلام: إذا أنا مت فلا تخمشي علي وجهاً ولا ترخي علي شعراً ولا تنادي بالويل ولا تقيمي عليّ نائحة.
ثم قال: هذا المعروف الذي قال الله عز وجل.
قال المفيد: ثم ثقل صلى الله عليه وآله وحضره الموت وأمير المؤمنين عليه السلام حاضر عنده فلما قرب خروج نفسه قال له: ضع يا على رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري وصلِّ عليّ أول الناس ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي واستعن بالله تعالى.
فأخذ علي رأسه فوضعه في حجره فأُغمي عليه فأكبّت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:
وأبيض يستقي الغمام بوجهه
ثــمال اليــتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول الله صلى الله عليه وآله عينه وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم فبكت طويلاً فأومأ إليها بالدنو منه فدنت منه فأسرّ إليها شيئاً تهلل وجهها له.
فجاءت الرواية أنه قيل لفاطمة عليها السلام ما الذي أسر إليك رسول الله صلى الله عليه وآله فسرّى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته؟ قالت: إنه أخبرني أنني أول أهل بيته لحوقاً به وإنه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه فسرّى ذلك عني.
وفي رواية الصدوق عن ابن عباس فجاء الحسن والحسين عليهما السلام يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله صلى الله عليه وآله فأراد علي عليه السلام أن ينحّيهما عنه فأفاق رسول الله صلى الله عليه وآله
ثم قال: يا علي دعني أشمهما ويشماني وأتزود منهما ويتزودان مني أما أنهما سيظلمان بعدي ويُقتلان ظلماً فلعنة الله على من يظلمهما ـ يقول ذلك ثلاثاً ـ ثم مد يده إلى علي فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه على فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة صلوات الله عليه وآله.
فانسلّ علي عليه السلام من تحت ثيابه وقال: أعظم الله أجوركم بنبيكم فقد قبضه الله إليه. فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء.
وقال الطبرسي وغيره ما ملخصه: أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله لملك الموت أمض لما أمرت له، فقال جبرئيل: يا محمد هذا آخر نزولي إلى الدنيا إنما كنت أنت حاجتي منها، فقال له: يا حبيبي جبرئيل أدن مني فدنا منه.
فكان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله وملك الموت قابض لروحه المقدسة فقبُض رسول الله صلى الله عليه وآله ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها إلى وجهه فمسحه بها.
ثم وجّهه وغمّضه ومدّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره.
قال الراوي: وصاحت فاطمة عليها السلام وصاح المسلمون ويضعون التراب على رؤوسهم.
روي سليم عن سلمان رضي الله عنه انه قال اتيت علياً وهو يغسل رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كان أوصى ان لا يغسله غير علي عليه السلام وأخبر عنه انه لا يريد ان يقلب منه عضواً إلا قلب له.
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله من يعينني على غسلك يا رسول الله قال جبرئيل فلما غسله وكفنه ادخلني وادخل أبا ذر والمقداد وفاطمة وحسناً وحسيناً عليهم السلام فتقدم وصففنا خلفه وصلى عليه والمرأة في الحجرة لا تعلم قد أخذ جبرئيل ببصرها.
قال المفيد فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلى عليه وحده لم يشركه معه أحد في الصلاة عليه وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمهم في الصلاة عليه وأين يدفن.
فخرج إليهم أمير المؤمنين عليه السلام وقال لهم ان رسول الله صلى الله عليه وآله أما منا حياً وميتاً فيدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلون عليه بغير إمام وينصرفون.
وان الله لم يقبض نبياً في مكان إلا وقد ارتضاه لرمسه فيه واني لدافنه في حجرته التي قبض فيها فسلم القوم لذلك ورضوا به.
روي الكليني عن أبي مريم الأنصاري قال قلت لأبي جعفر عليه السلام كيف كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله قال لما غسله أمير المؤمنين عليه السلام وكفنه سجاه ثم ادخل عليه عشرة فداروا حوله ثم وقف أمير المؤمنين عليه السلام في وسطهم فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلمياً فيقول القوم كما يقول عليه السلام حتى أهل المدينة والعوالي.
قال المفيد ولما صلى المسلمون عليه صلى الله عليه وآله انفذ العباس بن عبد المطلب برجل إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويصرح وكان ذلك عادة أهل مكة وانفذ إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد فاستدعاهما.
وقال اللهم خر لنبيك فوجد أبو طلحة زيد بن سهل وقيل له احفر لرسول الله صلى الله عليه وآله فحفر له لحداً ودخل أمير المؤمنين والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأسامة ابن زيد ليتولوا دفن رسول الله صلى الله عليه وآله.
فنادت الأنصار من وراء البيت يا علي انا نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله صلى الله عليه وآله ان يذهب أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال ليدخل أوس بن خولي وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف من الخزرج فلما دخل قال له علي عليه السلام أنزل القبر فنزل ووضع أمير المؤمنين رسول الله صلى الله عليهما وآلهما وسلم على يديه وولاه في حفرته فلما حصل في الأرض قال له أخرج فخرج ونزل على القبر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب انتهى.
وروي عن بصائر الدرجات عن أبي عبد الله عليه السلام أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله هبط جبرئيل عليه السلام ومعه الملائكة والروح الذين كانوا يهبطون في ليلة القدر.
قال ففتح لأمير المؤمنين عليه السلام بصره فرأهم في منتهى السموات إلى الأرض يغسلون النبي معهم ويصلون معه عليه ويحفرون له والله ما حضر له غيرهم حتى إذا وضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه فتكلم.
قال في نهج البلاغة من خطبة له عليه السلام ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله اني لم أرد على الله سبحانه ولا على رسوله ساعة قط ولقد واسيته في المواطن التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر الأقدام نجدة أكرمني الله بها.
ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وان رأسه لعلى صدري وقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي ولقد وليت غسله والملائكة أعواني فضجت الدار والأفنية ملاء يهبط وملاء يعرج وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه حتى وأريناه في ضريحه فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً.
وقال السيد بن طاووس في كشف المحجة: وكان من جملة حقوقه صلى الله عليه وآله بعد وفاته وخاصة يوم الممات ان يجلس المسلمون كلهم على التراب بل على الرماد ويلبسوا أفضل ما يلبسه أهل المصائب من السواد ويشتغلوا ذلك اليوم خاصة عن الطعام والشراب ويشترك في النياحة والبكاء والمصائب الرجال والنساء ويكون يوماً ما كان يوم مثله في الدنيا ولا يكون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري كتاب العلم باب كتابة العلم وكتاب الجهاد باب جوائز الوفد
2- الطبقات الكبرى: 2/244، كنز العمال: 3/138
3- صحيح البخاري كتاب العلم: 1/22و 2/14، الملل والنحل: 1/22. الطبقات الكبرى: 2/244