في السیرة النبي الأعظم /
البحث في الموضع الذي دُفن فيه النبي صلى الله عليه وآله هل هو بيت عائشة أو غيره بحث تاريخي لا أكثر ولا أقل.
والمعروف عند أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وآله دُفن في حجرة عائشة؛ لأن عائشة كثيراً ما كانت تردد ذلك وتصرح بهذا في كلماتها.
فقد أخرج البخاري بسنده إلى عائشة، قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه: أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ استبطاء ليوم عائشة، فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري، ودُفن في بيتي. (صحيح البخاري ۱/۴۱۲).
ولهذا نقل ابن كثير التواتر على أن النبي صلى الله عليه وآله دُفن في بيت عائشة، فقال: قد عُلم بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام دُفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دُفن بعده فيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما (السيرة النبوية ۴/۵۴۱).
ولكن الأدلة كلها لا تشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله دُفن في حجرة عائشة، ومن هذه الأدلة:
۱)أن بيت عائشة كان صغيراً جدًّا، وكذا كانت كل بيوت زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله، ويدل على ذلك قول عائشة: كنتُ أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. (صحيح البخاري ۱/۱۴۲، ۱۷۳)، فلو كان النبي صلى الله عليه وآله قد دُفن في حجرة عائشة، ثم دُفن فيها بعد ذلك أبو بكر ثم عمر لما كان لعائشة أي مكان تمكث فيه، ولكانت تتجوَّل على القبور، وتنام وتصلي على القبور، وهذا لم يقل به أحد.
۲) روي عن عائشة أنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني واضع ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه. (مسند أحمد بن حنبل ۶/۲۰۲٫ المستدرك ۳/۶۳، قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ۸/۲۶: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح).
ومن غير المعقول أن عائشة بقيت كل وقتها في غرفتها مشدودة عليها ثيابها متحجبة من عمر حتى توفيت.
۳) أنه روي أن عائشة أوصت بحجرتها إلى عبد الله بن الزبير، فقد أخرج البيهقي في سننه بسنده عن هشام بن عروة: كان عبد الله بن الزبير يعتد بمكة ما لا يعتد بها أحد من الناس، أوصت له عائشة رضي الله عنها بحجرتها، واشترى حجرة سودة. (سنن البيهقي ۶/۳۴٫ الطبقات الكبرى لابن سعد ۸ / ۱۱۸ ).
قلت: إذا كانت عائشة قد فعلت ذلك فمن المعلوم أن ابن الزبير لم يشتر الحجرة التي فيها قبر رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يكن المتصرّف فيه بعد عائشة، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله لم يدفن في حجرة عائشة، وإنما دفن في موضع آخر.
بل روى ابن سعد في الطبقات عن ابن أبي سبرة، قال: فأخبرني بعض أهل الشام أن معاوية أرسل إلى عائشة… واشترى من عائشة منزلها يقولون بمائة وثمانين ألف درهم، ويقال: بمائتي ألف درهم، وشرط لها سكناها حياتها، وحمل إلى عائشة المال، فما رامت من مجلسها حتى قسمته. ويقال: اشتراه ابن الزبير من عائشة، بعث إليها يقال: خمسة أجمال بخت تحمل المال، فشرط لها سكناها حياتها، فما برحت حتى قسمت ذلك، فقيل لها: لو خبأت لنا منه درهماً. فقالت عائشة: لو ذكرتموني لفعلت. (الطبقات الكبرى ۸/۱۶۴).
ولا يمكن أن نتصور أن تبيع عائشة الحجرة التي دفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر وعمر إلى معاوية، فإن ذلك ليس حقا لها ليصح لها بيعه!!
۴) روى الدارمي في سننه ۱/۴۷ بسنده عن أوس بن عبد الله، قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فاجعلوا منه كوىً إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمُطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتَّقت من الشحم، فسُمّي عام الفتق. (صحَّح هذا الحديث الشيخ عبد الله الصديق الغماري، وقال: ضعَّف الألباني هذا الأثر بسعيد بن زيد، وهو مردود؛ لأن سعيداً من رجال مسلم، ووثقه يحيى بن معين. وضعفه أيضاً باختلاط أبي النعمان، وهو تضعيف غير صحيح؛ لأن اختلاط أبي النعمان لم يؤثر في روايته، قال الدارقطني: تغيَّر بأخرة، وما ظهر له بعد اختلاط حديث منكر، وهو ثقة. وقول ابن حبان: وقع في حديثه المناكير الكثيرة بعد اختلاطه، ردَّه الذهبي، فقال: لم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثاً منكراً، والقول فيه ما قال الدارقطني، وابن تيمية كذَّب أثر عائشة، ولا عبرة به؛ لجرأته على تكذيب ما يخالف هواه، والحمد لله رب العالمين. (إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي : ۲۳)).
وكلامها ظاهر في أنه مكان آخر غير الغرفة التي كانت تسكن فيها عائشة، إذ من غير المتوقع أن تشير عائشة عليهم بهدم سقف الحجرة التي كانت تسكن فيها، فلا تحميها من مطر ولا حر ولا برد.
۵) أن الحوادث الكثيرة دلت على أن الناس كانوا في حياة عائشة يأتون إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله، وربما جلسوا عنده، فهل كان بيت عائشة مفتوحاً لكل من يريد الدخول لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله؟
وهذه الحوادث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله دفن في مكان واسع آخر غير غرف نسائه، وهو المكان الذي كان يلتقي فيه بالناس، وهو مكان قريب من غرف نسائه.
۶) ما رواه الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء. (مسند أحمد بن حنبل ۶/۶۲).
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسنده عن عائشة قالت: ما شعرنا بدفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل. (المصنف ۳/۳۳۹).
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله دفن في بيت آخر غير بيت عائشة، وإلا لو دفن النبي صلى الله عليه وآله في بيت عائشة لعلمت بذلك حتماً.
والنتيجة أن الذي يظهر من مجموع ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لم يدفن في بيت عائشة، وإنما دفن صلى الله عليه وآله كما قلنا في حجرة خاصة كان يستقبل النبي صلى الله عليه وآله فيها الناس، ولم تكن تلك الحجرة حجرة عائشة ولا غيرها من زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله، إلا أن عائشة صارت تدَّعي أن النبي صلى الله عليه وآله دُفن في حجرتها، فصدَّقها الناس، مع أن الأمر لم يكن كذلك.
ولا يخفى أنه ليس الغرض من هذا البحث هو التقليل من عائشة أو سلبها فضيلة ثبتت لها؛ لأن ثبوت أن النبي صلى الله عليه وآله لم يدفن في بيت عائشة لا يستلزم القدح في عائشة كما لم يستلزم القول بأن النبي صلى الله عليه وآله دُفن في بيت عائشة أي قدح في زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله الأخريات.
وبالمقابل فإن ثبوت أن قبر النبي صلى الله عليه وآله في بيت عائشة لا يدل على أي فضيلة لعائشة؛ لأنه بالنتيجة بيت من بيوت النبي صلى الله عليه وآله كما قلنا، وهو كسائر بيوته الأخرى.
الكاتب: الشيخ علي آل محسن