لقد كشفت التجربة عن أن عواطف الشخصيات الكبرى تجاه ابنائهم تتضاءل إثر تراكم النشاطات وتزايد الاهتمامات والهموم، لأنّ الاهداف الكبرى، والاهتمامات العالمية تشغل بالهم وفكرهم إلى درجة لا تترك لهم مجالا لمشاعرهم العاطفية بالظهور والتجلّي، بيد أنّه يستثنى الشخصيات الروحانية والمعنوية الكبرى من هذه القاعدة فهم مع ما يشغل بالهم من الاهداف الكبرى، والاهتمامات العالية، والشواغل اليومية الكثيرة يمتلكون روحا كبرى ونفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عمل عن آخر، ولا يشغلهم شغل عن آخر، فلا مكان للضمور العاطفي عندهم، ولا مكان للجمود الاحساسيّ في حياتهم الاجتماعية والعائلية.
إن محبة النبي (صلى الله عليه وآله) لابنته الوحيدة فاطمة كانت من أبرز التجليات العاطفية الانسانية في شخصية النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)، ولهذا لم يعهد أن يسافر رسول الله من دون أن يودع ابنته، كما لم يعهد أن يرجع المدينة من دون ان يزور ابنته قبل أي أحد، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراما لائقا بها ويقول لاتباعه: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني»([1]).
كما أن رؤية فاطمة كانت تذكرة بأشدّ نساء العالمين طهراً ووفاء، وعطفا ولطفا، (خديجة) التي تحملت في سبيل أهداف زوجها المقدس متاعب كبيرة، وبذلت ثروتها كلها في سبيل تلك الاهداف بإخلاص ورغبة.
كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تلازم فراش والدها النبي (صلى الله عليه وآله) طوال أيام مرضه، ولا تفارقه لحظة واحدة، وفجأة أشار النبي إلى ابنته يطلب منها ان تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريبا من فمه الشريف ثم راح النبي (صلى الله عليه وآله) يحادثها بصوت ضئيل ولم يعرف من كان هناك ماذا قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابنته الطاهرة في تلك النجوى.
وإنما شاهدوا الزهراء تبكي بشدة لما انتهى والدها من حديثه وسالت دموعها بغزارة، ولكنهم شاهدوا أن النبي اشار إليها مرة أخرى وحدثها بشيء فسرّت فاطمة وتهلّلت اسارير وجهها، وتبسمت مستبشرة.
فاثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور وبعثتهم على التعجب والدهشة، فلما سألوها عن سرّ ذلك الحزن، وهذه الفرحة، وطلبوا منها ان تذكر لهم علة هاتين الحالتين المتضادتين قالت: «ما كنت لافشي سرّه».
ثم بعد أن قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كشفت الزهراء (عليها السلام) عن الحقيقة بناء على إصرار عائشة وقالت: أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قد حضر أجله وأنه يقبض في وجعه هذا، فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقا به فضحكت([2]).
سيرة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، آية الله الشيخ جعفر سبحاني
([1]) صحيح البخاري: ج 5 ص 21.
([2]) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 247، الكامل، ج 2 ص 219.