فالمناسبُ هو استعمالُ لامِ الاختصاص كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي إنَّ ما كسَبته تلك الأُمَّة من خيرٍ أو شرٍّ فهو يختصُّ بها لا يتعدَّاها إلى غيرِها، وما كسبتموه أنتم مِن خيرٍ أو شرٍّ يختصُّ بكم لا يتعدَّاكم إلى غيرِكم…
بسم الله الرحمن الرحيم اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ لماذا قال اللهُ تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ ولم يقلْ فعليها كما في قولِه تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾؟
الجواب:
إنَّ الآيةَ الأولى جاءتْ لتقرِّر معنًى يختلفُ عمَّا جاءت الآيةُ الثانية لتقريره، فقولُه: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ سِيق لإفادة معنًى، وقوله: ﴿وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ سِيق لإفادة معنًى آخر، وهذا هو مبرِّرُ الاختلاف في التعبير واستعمال اللام في الآية الأولى وحرف الجرِّ “على” في الآيةِ الثانية.
وبيان ذلك: إنَّ معنى قولِه تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ هو أنَّ الإحسان يختصُّ أثرُه بفاعلِه لا يتعدَّاه إلى غيره، وإنَّ الإساءة مختصَّةٌ بفاعلِها لا تتعدَّاه إلى غيره، فاللامُ في قوله: ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ وقوله: ﴿فَلَهَا﴾ تعني الاختصاص، والآيةُ سِيقت لإفادة اختصاص أثَرِ الإحسان والإساءة بفاعلِهما، فحيثُ كانت بصدد بيان ذلك فالمناسبُ هو استعمالُ لامِ الاختصاص كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي إنَّ ما كسَبته تلك الأُمَّة من خيرٍ أو شرٍّ فهو يختصُّ بها لا يتعدَّاها إلى غيرِها، وما كسبتموه أنتم مِن خيرٍ أو شرٍّ يختصُّ بكم لا يتعدَّاكم إلى غيرِكم: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
وأمَّا الآية الثانية وهي قولِه تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ فهي بصدد بيان طبيعة أثر الاحسان والعمل الصالح، وطبيعة أثر الإساءة، فطبيعةُ أثر الإحسان هو النفع، وطبيعةُ أثر الإساءة هو الضرر، والنفعُ يكون للنفس، والضررُ يكون عليها، فلأنّ الآية أرادت الإشارة إلى أنَّ طبيعة أثر الإحسان هو النفع وأنَّ طبيعة أثر الإساءة هو الضرر لذلك استعملت اللام للأول، واستعملت حرف الجرِّ (على) للثاني، وذلك للتنويه على أنَّ أثر الإحسان هو النفع، وأثر الإساءة هو الضرر، والتقدير هو: مَن عمل صالحًا فلَه نفعُه، ومن أساء فعليه ضررُه أو مَن عمِل صالحًا فلنفسه نفعُ ذلك العمل الصالح، ومَن أساء فعلى نفسِه ضررُ إساءته، إذ أنَّ النفع يكون للنفس، والضررُ يكون وباله على النفس.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ يعني مَن أبصر فنفعُ ذلك لنفسه، ومن عمي فضررُ ذلك على نفسه.
وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أي فمَن اختار الهداية فنفعُ اختيار الهداية لنفسه، ومن ضلَّ فضررُ ضلاله على نفسه.
وخلاصة القول: هو أنَّ الآية الأولى كانت بصدد بيان اختصاص الأثر بفاعله بقطع النظر عن طبيعة هذا الأثر، فهي بصدد أنَّ هذا الأثر يكون خاصًّا بفاعله لا يتعدَّاه إلى غيره، لذلك كان المناسب استعمال لام الاختصاص لإفادة هذا المعنى.
ويُؤيِّد ذلك ما رُويَ عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: “ما أحسنتَ إلى أحدٍ ولا أسأتَ إليه” وتلا هذه الآية: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ يعني إحسانك للغير يعودُ في المآل إليك وإساءتُك للغير يعودُ في المآل إليك ففي الحقيقة الإحسان والإساءة يختصُّ أثرُهما بفاعلهما. فهذا هو مفاد الآية.
وأمَّا الآية الثانية فهي بصدد بيان أمرٍ آخر وهو أنَّ أثرَ العمل الصالح هو النفع، وأثرَ العمل السيء هو الضرر، وحيث إنَّ النفع يكون للنفس، والضررَ يكونُ عليها لذلك أشار إلى هذين الأثرين بواسطة استعمال اللام للإشارة إلى أثر الإحسان، واستعمال حرف الجرِّ (على) للإشارة إلى أثر الإساءة.
هذا وقد أفاد بعض المفسِّرين أنَّ معني قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ هو أنَّه إنْ أسأتم فعليها، فاستُعملتْ اللام بمعنى “على” كما في قوله تعالى: ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾أي فعليهم اللَّعنة فيكون -بناءً على ذلك- معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ هو ذاته المعنى المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾.
إلا أنَّه لا موجبَ للبناء على استعمال حرفٍ مكان حرفٍ إلا مع قيام القرينة المقتضية لذلك، وصحَّة استعمال اللام بمعنى “على” كما في قوله ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ لا يُصحِّح البناء على أنَّ اللام قد استُعملت بمعنى “على” في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ خصوصًا مع إمكان استعمالها فيما هي له وفيما هو مقتضى الظاهر منها، على أنَّ من غير الواضح أنَّ اللام في قوله: ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ قد استُعملت بمعنى حرف الجر “على” فلعلَّ هذه اللام هي المعبَّر عنها بلام الاستحقاق –كما عليه أكثرُ المفسِّرين- فيكون مفاد الآية هو: فلهم البُعدُ والطردُ من رحمة الله أي فحقُّهم ونصيبهم الطرد من رحمة الله تعالى.
وهذا المعنى هو المستظهر من هذه الصياغة، وهو المناسب للفقرة التي تلتْ هذه الفقرة أعني قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ فإنَّ اللام في هذه الفقرة هي لام الاستحقاق دون إشكال ومعناها فحقُّهم ونصيبُهم سوءُ الدار وهي جهنَّم.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور